جلـ ... منار

صهاينة أحفاد عملاء الـ«غستابو» في الشيخ جرّاح وغزّة

نشرت

في

يصحّ، دائماً في واقع الأمر وليس بين حين وآخر فحسب، العودة إلى تلك المؤلفات التي تتناول الهولوكوست وتبدو غريبة للوهلة الأولى لأنها تضع المرجعية الصهيونية، مؤسسات وممثلين على نحو متّحد، في موقف مواجهة تآمرية ضدّ اليهود أنفسهم؛ وفي حال تواطؤ مع ألدّ أعداء اليهود، في أوروبا على الأقلّ، أي الإيديولوجية النازية ومؤسساتها وجيشها وأجهزتها، وفي ملفّ مأساوي فريد هو الهولوكوست وما سُمّي بـ«الحلّ النهائي». ولا مناص، في المقابل، من أن العودة إلى تلك المؤلفات تكتسي بطابع خاصّ ملحّ، حين تتكشف هذه أو تلك من الركائز الزائفة للصهيونية، أو هذا الوجه أو ذاك من بواطنها الفاشية، تماماً كما يحدث اليوم في القدس وغزّة.

<strong>صبحي حديدي<strong>


وهذه السطور سوف تبدأ من كتاب يوسيف غرودزنسكي، أستاذ الألسنيات في جامعة تل أبيب، والذي صدر بالعبرية أولاً في سنة 1998، ثمّ في نسخة إنكليزية منقحة سنة 2004، تحت عنوان «في ظلّ الهولوكوست: الصراع بين اليهود والصهاينة في أعقاب الحرب العالمية الثانية». موضوع الكتاب، باختصار شديد كافٍ في ذاته، هو التالي: دور المشاركة المباشرة الذي لعبته المؤسسة الصهيونية وعدد من كبار الصهاينة في مختلف وقائع الهولوكوست، خلال أربعينيات القرن الماضي؛ ودورها في تحويل الفاجعة الإنسانية إلى صناعة دعائية، وكيف انطوى ذلك الدور على تواطؤ مباشر صريح بين بعض القيادات الصهيونية وكبار ضبّاط الرايخ الثالث المسؤولين عن تصميم وتنفيذ ما عُرف باسم «الحلّ النهائي» لإبادة اليهود.


خلاصة مفاجئة بالطبع، ولكن للوهلة الأولى فقط، لأنّ التفاصيل المذهلة التي يسوقها غرودزنسكي، بعد سيرورات تنقيب ونبش وبحص مضنية شملت عشرات الوثائق الصاعقة والأدلة الصادمة؛ تضع المفاجأة جانباً، وتستبدلها بمعادلات منطقية لا خلاف حولها، بصدد استعداد صهاينة تلك الأزمنة للدخول في كلّ وأية صفقة تسهّل إقامة «دولة يهودية» في فلسطين التاريخية، حتى إذا كانت الدروب إلى هذا الهدف سوف تُعبّد بأرواح آلاف اليهود. إلى هذا فإنّ الكثير من الوقائع التي يرويها غرودزنسكي ليست جديدة، وقد أتى على ذكرها عدد من مؤرّخي الرايخ الثالث، وعدد آخر من المؤرخين اليهود أنفسهم؛ لكنّ جديد «في ظلّ الهولوكوست» كان أنه هذه المرّة يتناول التفاصيل وقد وُضعت في سياقات تخصّ جانباً محدداً بعينه.
ذلك الجانب تحتويه الأسئلة التالية: كيف جرى، ويجري، تسويق الهولوكوست لأسباب سياسية صرفة تطمس، وأحياناً تشطب تماماً، سلسلة الوقائع الإنسانية التي تسرد عذابات الضحايا وآلامهم وتضحياتهم؟ وكيف جرى، ويجري، الضغط على ضحايا الهولوكوست أنفسهم، وأحفادهم من بعدهم، للهجرة إلى فلسطين المحتلة رغم إرادتهم غالباً؟ وكيف استقرّ دافيد بن غوريون على الرأي القائل بضرورة تضخيم حكاية سفينة «الخروج» الشهيرة، سنة 1947، كي تشدّ أنظار العالم إلى مأساة اليهود وتستدرّ العطف عليهم والتعاطف مع الوكالة اليهودية التي كانت تقوم مقام دولة الاحتلال الراهنة؟ وكيف أنّ الحقيقة الأليمة خلف حكاية السفينة لا تنطبق، أبداً، على الجوانب الملحمية البطولية كما جرى تلفيقها في رواية ليون أوريس الشهيرة، وفي فيلم أوتو بريمنغر الأشهر…

ليست مبالغة أن يُرى أبناء وأحفاد عملاء الـ»غستابو» ونازية الأربعينيات وهم يرتكبون الجرائم والفظائع في حيّ الشيخ جراح وباحات المسجد الأقصى وباب العامود وقطاع غزّة، فضلاً عن اللد وأمّ الفحم وحيفا

والملفّ يشتمل خصوصاً على «قضية كاستنر»، التي بدأت فصولها سنة 1945 حين بادر اليهودي الهنغاري مالكئيل غرينفالد (أحد الناجين من الهولوكوست، وكان يومئذ يبلغ من العمر 72 سنة) إلى نشر كرّاس صغير يتهم فيه اليهودي الهنغاري رودولف كاستنر (الذي كان قيادياً صهونياً بارزاً وأحد أقطاب الـ«ماباي»، حزب بن غوريون)، بالتعاون مع النازيين خلال سنتَي 1944 و1945. لقد وافق الأخير، بعد تنسيق مباشر مع الضابط النازي المعروف أدولف إيخمان قائد الـ«غستابو» آنذاك، على «شحن» نصف مليون يهودي هنغاري إلى معسكرات الإبادة، بعد أن طمأنهم كاستنر وبعض معاونيه إلى أنّهم سوف يُنقلون إلى مساكن جديدة؛ حتى أنّ البعض منهم تسابقوا إلى صعود القطارات بغية الوصول في توقيت أبكر، والحصول على مساكن أفضل! وكان الثمن إنقاذ حياة كاستنر وبعض أقربائه، ثمّ غضّ النظر عن هجرة 1600 يهودي إلى فلسطين.
وهذا الكرّاس تحوّل إلى قضية حين رفع كاستنر دعوى أمام القضاء الإسرائيلي ضدّ غرينفالد، بتهمة تشويه سمعته. وبعد أخذ وردّ أصدر القاضي بنيامين هاليفي حكمه بأنّ كاستنر تعاون بالفعل مع النازيين و«باع روحه للشيطان». المثير أنّ كاستنر قرّر استئناف الحكم، لكنه اغتيل في عام 1957 في ظروف غامضة، الأمر الذي تشكك فيه االمؤرخة الإسرائيلية إديث زيرتال في كتابها «الموت والأمّة: التاريخ، الذاكرة، السياسة»؛ وتعزو اغتياله إلى أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، لأنّ وجوده على قيد الحياة بات مصدر إحراج للدولة. ولكي يفضح القضاء الإسرائيلي، مجدداً، أكذوبة توصيف الكيان الصهيوني بدولة قانون، برأت المحكمة العليا كاستنر بعد وفاته؛ الأمر الذي لم يطمس حقيقة أنّ القضية كانت قد حطّمت – للمرّة الأولى منذ بدء فصول الهولوكوست – الحدود شبه المقدّسة بين الضحية والقاتل، وأسقطت الحصانة المطلقة التي تمتّع بها اليهودي في المسؤولية عن الهولوكوست.
وإذْ يستعرض غرودزنسكي سلسلة الأسباب التي دفعته إلى تأليف هذا الكتاب، يشير إلى نهج صهيوني رئيسي خلال الأربعينيات مفاده قسر اليهود على الهجرة إلى فلسطين، ويكتب التالي: «بينما جرى ربط تأسيس الدولة بنزاع مع العرب حول الأرض، فإنّ الأمر انطوى أيضاً على نزاع مع اليهود حول البشر. وإذا كان الكثير قد كُتب حول الجانب الأوّل، فإنّ القليل فقط تناول الجانب الثاني، وهذا الكتاب محاولة لسدّ الفراغ عن طريق تركيز عدسة نقدية على الحركة الصهيونية ما قبل الدولة».
وغرودزنسكي يقتبس إسحق رابين (الذي يوصف عادة بأنه «نبيّ السلام»، حتى عند بعض فلسطينيي تمجيد اتفاقيات أوسلو) في مدائحه للعسكريين اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين، طواعية هذه المرّة وليس إرغاماً. لكنه يتناسى، إذْ يصعب على مؤرخ مثله أن ينسى، أنّ رابين نفسه لم يشارك، سنة 1993 بصفة رئيس حكومة الاحتلال، في إحياء الذكرى الخمسين لانتفاضة غيتو وارسو إلا بعد أن حرص قبيل سفره على تحويل الضفة الغربية وقطاع غزة إلى «غيتو فلسطيني» بشروط أسوأ مما كان عليه الغيتو الذي ذهب يستعيد ذكراه.
وللراغب(ة) في الاستزادة حول التعاون النازي الصهيوني، ثمة الوقائع التي ساقها سنة 2017، عمدة لندن الأسبق كين لفنغستون بصدد اتفاقية الترانسفير الموقعة في آب (أغسطس) 1933 بين وزير الاقتصاد النازي، والرابطة الصهيونية في ألمانيا، وممثل بنك الأنغلو – فلسطين الذي كان تحت إدارة يهودية. ومن المعروف أنّ تصريحات لفنغستون حول هذه القضية تسببت في فصله من حزب العمال البريطاني. هنالك، أيضاً، كتاب «51 وثيقة: التعاون الصهيوني مع النازيين»، الذي وقّعه الأمريكي الكاتب والناشط في الحقوق المدنية ليني برينان وصدر سنة 2002 عن دار Barricade Books في نيوجيرسي. وهذا كراس يستكمل كتاب برينان «الصهيونية في عصر الدكتاتوريين»، الذي صدر سنة 1983 واستعرض تفاصيل التعاون الصهيوني مع النازية والفاشية وطغاة العالم. أخيراً، وليس آخراً، تصحّ استعادة ألبرت أينشتاين في رسالته إلى صحيفة «نيويورك تايمز»، سنة 1948، حيث يعتبر أنّ «حيروت»، حزب مناحين بيغن، «مرتبط على نحو وثيق، في تنظيمه وطرائقه وفلسفته السياسية ودعوته الاجتماعية، بالاحزاب النازية والفاشية».
ليست مبالغة، إذن، أن يُرى أبناء وأحفاد عملاء الـ»غستابو» ونازية الأربعينيات، وهم يرتكبون الجرائم والفظائع في حيّ الشيخ جراح وباحات المسجد الأقصى وباب العامود وقطاع غزّة، فضلاً عن اللد وأمّ الفحم وحيفا..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كاتب وباحث سوري مقيم في باريس*

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version