في فيتنام تنقل النساء المياه من الينابيع إلى البيوت بطريقة تميزهم عن غيرهم من الشعوب…تحمل كل امرأة سطلين معلقين بطرفي عصا.تثبت العصا على منكبيها من خلف الرقبة، ثم تمسك كل طرف بيد.
تقول قصة فيتنامية، إن امرأة كانت تملك سطلين أحدهما مثقوب، ولم يكن يصل إلى البيت سوى نصف الماء، إذ يتسرب النصف الثاني على امتداد الطريق، الأمر الذي كان يزعجها…لكن مع بداية الربيع لاحظت أن بعض البذور قد انتشت على طرف الطريق الذي يتلقى الماء، وراحت تورق وتزهر يوما بعد يوم.عندها ايقنت أن ماءها لم يذهب هدرا، فلقد أزهر الطريق!
وأنت كذلك، لن يذهب عطاؤك هدرا، مهما كنت بحاجة إليه، بل سيعود ليزهر حياتك،ويبعث السرور والبهجة في قلبك بشكل أو بآخر!
اعط بدون أن تتوقع مردودا، وسيفاجئك الربيع بحقل من الأزهار لم تكن تتوقعه…
حاجة الطرف الآخر هي التي يجب أن تحدد أهمية العطاء، وليس أي اعتبار آخر، و إلاّ سيفقد العطاء قيمته ومعناه.
يجب أن يعكس انسانيتك ومحبتك وكرم أخلاقك، لا أن يعكس رأيك بفلان أو فلان، أو درجة قرابتك منه…
كم من الناس تزعم أنها تعطي، ولكنها تعطي وفقا لجدول من الاعتبارات، تحدده آراؤها و تقيماتها وميولها وطائفيتها وعنصريتها!
اعط كل محتاج بغض النظر إذا كان محسوبا على جدول اعتباراتك أم خارجه، فالشمس لا تعطي ضياءها وفقا لجدول حسابات….ولا المطر…ولا الأرض…إنه قانون كوني، فلا تعارض قانونا كونيا!…
* * * *
الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون، الذي عاش في القرن الثاني عشر، يقسم أنواع العطاءات إلى ثمانية ترتقي من أسوأها إلى أفضلها إنسانيا!
يكفي أن تعرف أسوأها وأفضلها، وعليك أن تتخيل ما بينهما.
الأسوأ أن تعطي مُكرهًا….كأن تُجبر على العطاء تحت ظرف ما، أو لكسب ودّ أو لنفش ريش.
أما النوع الأرقى انسانيا، بناءً على تقيم الفيلسوف بن ميمون، فهو الذي يساهم في تحسين وضع محتاج كي يقف على رجليه، ويتعلم كيف يأمن رغيفه بجهده وعرق جبينه، كي لا يبقى عالة على غيره، كأن تعلمه صنعة أو تفتح له باب عمل يسترزق منه.
لكنني شخصيا أرى النوع السابع لا يقل رقيّا وجمالا، وهو أن تعطي دون أن تعرف من هو الذي تعطيه، وهو لا يعرف من أعطاه.بناء على هذا النوع قامت الجمعيات الخيرية لتكون صلة الوصل بين العاطي والآخذ دون أن يعرف أي منهما الآخر…
ورغم كل مساوئها ـ على الصعيد البيروقراطي ـ تبقى هي الأفضل وخصوصا في أمريكا. العرب هنا في أمريكا يشكون دوما من بخل الأمريكان على المستوى الشخصي.هكذا يتهيأ لهم….فالأمريكان ليسوا بخلاء لكننا نختلف عنهم في مفهومنا لثقافة العطاء…
العربي يبيع فرشته لكي يكرم ضيفه…وهي عادة متأصلة ـ بناء على علم الإجتماع ـ في أهالي الصحراء وسيبيريا. والدوافع وراءها أن الإنسان يخاف من أن يضلّ طريقه في بيئة قاحلة لا تملك مقومات الحياة ولا تضمن استمراريتها، فيلجأ باللاوعي وفي ساحة وعيه إلى تبني تلك العادة، كي يضمن أن يجد من يطعمه وهو يهيم على وجهه لا يعرف أية من جهاته!
في أمريكا، الأمريكي ليس ملزما أن يُفْرط في ضيافته، فاللقاء ليس من أجل الأكل، والكل متخم في أية لحظة، علما بأنني دُعيت إلى موائد أمريكية مفرطة في جمالها وأناقتها وبساطتها.لكن أعتقد أن الشعب الأمريكي هو الشعب الأكثر كرما في العالم عندما يتعلق الأمربالتبرع للجمعيات الخيرية أو لقضية انسانية ما!
مؤخرا قرأت نبأ موت طفلة صغيرة بعد أن ضربتها سيارة أمام بيتها.النبأ يقول إن الأهل لا يملكون تكاليف الدفن والجنازة.قام البعض بتشكيل صفحة على وسائل التواصل الإجتماعي، بعنوان: Go fund meووضعوا الغاية منها أن يجمعوا مبلغ 25 ألف دولار لأهل الضحية.خلال اليومين الأولين وصل المبلغ إلى 40 ألف….وقس على ذلك!
بينما من الصعب أن تُقنع عربيا أن يتبرع بخمس دولارات لقضية انسانية لا يعرف صاحبها.
وإذا صادف وكنت من المدعوين لحفلة زفاف ابنه، ستظن أنه الأمير تشارلز و العروس ابنه وليام!
يستنزف تحويشة العمر لينفش ريشه، وعلى طريقته!
الكرم أن تسد حاجة لمحتاج بغض النظر عن من يكون، لا أن تسرف على بشر يتضمنهم جدول حساباتك كي تنال إعجابهم، وبالتالي كي تشبع غرورك!
هذا لا ينفي ضرورة أن تكون اجتماعيا وتكرم ضيوفك، وتبسط رجليك على امتداد سجادتك،فمن الطبيعي أن يكون المال الذي جنيته خادمك.
لكن بعد أن تضع، ولو محتاجا واحدا، على قمة جدول حساباتك ومن أهم أولوياتك!
فلو مد كل منا يده لينتشل شخصا واحدا سنساهم جميعنا في إصلاح الكون….وطوبى لمن يرى في الإصلاح أسمى غاياته!