تابعنا على

جور نار

على هامش صدور التقرير العالمي لمؤشرات السعادة

نشرت

في

منصف الخميري:

أرست الأمم المتحدة سنة 2012 تقليد إصدار تقرير سنوي حول توزّع منسوب السعادة في العالم وتصنيف البلدان حسب جملة من مؤشرات البهجة كما يتمثّلها الناس.

منصف الخميري Moncef Khemiri

 وللسنة السادسة على التوالي أُعتبر الفنلنديون الأكثر إحساسا بالسعادة في العالم يليهم الدانماركيون والإيزلنديون والسويسريون والهولنديون. أما أفغانستان فقد احتلت الرتبة الأخيرة من حيث إحساس عامة المواطنين بالقحط والجدب وتعكّر المزاج مع لبنان والزيمبابوي ورواندا وبوتسوانا، وذلك إثر مسح شمل 150 دولة تولاّها معهد غالوب المتخصص في الإحصاء والاستبيانات اعتمادا على سؤال المواطنين حول كيفية تقديرهم لمستوى سعادتهم الذاتية، وجعل الأجوبة عنه تتقاطع مع جملة من المعطيات الموضوعية التي تهمّ وضع البلد برُمّته.

 لِمَ كل هذا الشعور بالسعادة في فنلندا ؟

من ضمن المؤشرات المعتمدة في تحديد مِحرار السعادة نجد معدّل الحياة بصحة جيدة، وإجمالي الدّخل المحلّي المُتاح لكل فرد، ووقع السّند الاجتماعي، والمستوى المنخفض للفساد، ودرجة الرضى عن أداء مرفق التعليم، وقيم التّضامن، وحرية التعبير إلخ…

احتلت فنلندا رغم شتاءاتها الطويلة والصعبة سنة 2023 المرتبة الأولى عالميا بنتيجة 7.82/10 متقدمة على فرنسا على سبيل المثال التي تحتل المرتبة 21 . والشعور بالسعادة لدى الفنلنديين بالنسبة إلى بعض المتابعين هو شعور خاص جدا باعتباره أقرب إلى إحساس بالاكتفاء والارتياح البسيطين أكثر منه وعي بالسعادة المكثفة والدائمة، في علاقة بعلامات البذخ والترف التقليديين. فبالنسبة إليهم ليست السعادة بالضرورة ذلك “الشعور الأوحد والحاد بل هو شعور أبسط من ذلك وكأنه شيءٌ في متناول جميع الناس مثل الماء والهواء” .

تقول مُدوّنة شعرهم في هذا الخصوص: “لا تقارن سعادتك ولا تجعلها محلّ تفاخر”.

الفنلنديون ينامون كثيرا ويأكلون ويشربون بشكل جيد ويُغذّون ما يُسمّونه بـ”السّيزو” SISU الذي هو مصطلح فنلندي أصيل متوارث منذ عصور قديمة ويعني حسب السياقات إما مبدأ معيّنا أو قيمة أو أسلوب حياة أو كذلك النحو الذي تتحوّل بموجبه الصعوبات إلى فرص للحياة  والمتعة. وهو مصطلح غير قابل للترجمة نحو لغات أخرى، فهو قوة الروح أو نوع من السلطة النفسية التي تمكّن من استجماع القوة ذهنيا وجسديا لمواجهة التحديات والصّعاب.

من أسباب سعادتهم أيضا تميّز علاقتهم العضوية مع الطبيعة والتمتع بعديد الأنشطة في الهواء الطلق في بيئة نظيفة وجذابة، وُلوجها مُتاح لجميع الناس : قرابة 90 بالمائة من الفنلنديين يعتبرون أن الطبيعة عنصر أساسي في حياتهم وتمضية الوقت وسط الغابات والمنتجعات والحدائق والمحميات يرفع من حيويتهم ورفاههم وشعورهم بالامتلاء الشخصي. بالإضافة إلى التوازن البنّاء الذي أوجدوه بين الحياة الخاصة والحياة المهنية مما سمح للعائلة الفنلندية بالمحافظة على تماسكها والاستثمار في ما يصنع “السعادة العامة المشتركة” عائليا ووطنيا، حيث أن جزءا كبيرا من السعادة يبنيه الفنلنديون على نحو جماعي من خلال المراهنة على التربية المُيسّرة للجميع والتقليص من اختلال التوازن بين الجنسين وبين الفئات الاجتماعية مع تعزيز الروابط الاجتماعية وإنماء الشعور بالأمان.

تذكر تفاصيل التقرير أن :

97 % من الفنلنديين راضون عن جودة مياه “السبّالة” التي يشربونها.

96 % منهم يعتبرون أن لدى لكل واحد فيهم “شخصا على الأقل يمكن الاعتماد عليه عند الحاجة“.

69 % منهم على الأقل يشاركون في المسار السياسي والانتخابي.

82 سنة هو معدل الحياة في فنلندا.

68 % من الفنلنديين يجيبون بنعم عن سؤال : هل أنت بصحة جيدة ؟

88 % يقولون إنهم يشعرون بالأمان عندما يسيرون لوحدهم في الطريق العام ليلا، في ظل تدنّ كبير لمعدّلات الجريمة والانحراف التي هي الأضعف في العالم.

يُذكر أيضا أن الفنلنديين يُولُون أهمية كبرى لقيمة الصدق والنزاهة. ففي “تحقيق المحافظ المفقودة” الذي أجرته إحدى المجلات التاريخية “ريدرز ديجست” والمتمثل في إضاعة محافظ أوراق في عديد بلدان العالم واحتساب عدد “الإرجاعات التلقائية“، كانت المدن الفنلندية في كل مرة هي من تفوز بالمرتبة الأولى عالميا بمعدل إرجاع 11 محفظة على 12. كما تُعدّ فنلندا من ضمن الثلاثة بلدان الأقل فسادا من قبل الهيئات العالمية المختصة. هي بعيدة عن أن تكون المدينة الفاضلة وإنما تؤشر هذه الأرقام على أن الفنلنديين “ميّالون” إلى التحلي بالنزاهة والاستقامة مقارنة بالشعوب الأخرى (وخاصة تلك التي تعرفون!).

ملاحظتان على هامش تقرير مؤشرات السعادة :

أولا : في أعلى الترتيب

من الأكيد أنه لا يمكن أن تكون سعيدا ومُبتهجا بقرار ذاتي كما تقول تعويذات التنمية البشرية، بل إن تضافر جملة من العوامل الموضوعية (الوضع الاقتصادي والسياسي العام ومستوى المعيشة وجودة الخدمات في مجالات التربية والصحة والنقل، والشعور بالانتماء إلى بلد نعتزّ بالانتماء إليه والإحساس بالأمن…) مما له تأثير مباشر على “الشعور الذاتي بالسعادة”. وفي الحالة الفنلندية والبلدان المرافقة لها فأعتقد وحسب ما تؤكّده كل المعطيات التي اطلعت عليها أن مستوى الرفاه العام المتأتّي أساسا من حوكمة جيدة لمُقدّرات البلد “المتواضعة” نسبيا مقارنة ببلداننا العربية على سبيل المثال، فنقاط قوة الاقتصاد الفنلندي تتركز على تصدير الخشب (77 % من مساحة فنلندا تغطيها الغابات بـ 23 مليون هكتار من الغابات) وتصدير الخبرة الهندسية والاتصالات والإلكترونيك والمفاعلات النووية وآلات التسخين والمعدات الميكانيكية والورق والجرّارات والنيكل والمنتجات الصيدلية والمطاط والمنتجات الكيمياوية العضوية …وبالتالي فإنه باستثناء الخشب المتوفّر طبيعيا تكاد تكون كل المنتجات الأخرى المُصدّرة إفرازا لعقل ذكي عرف كيف يوظف المعرفة والتكنولوجيا والطبيعة في خدمة سعادة الناس وهنائهم.

وما هو لافت في هذا المجال أن دولة الكيان الغازي تحتل إحدى المراتب العشرة الأولى  بما قد يعني أن المستوطنين الغاصبين لأرض غيرهم يتمتّعون بمستوى عيش ومستوى خدمات عامة تجعلهم يطمئنون إلى مستقبلهم، رغم شعور شريحة واسعة منهم أن لا مستقبل حقيقي لمن يتوقّع انفجار اللغم الفلسطيني تحت قدميه في كل لحظة. تقديري أن نجاح منظّريهم في إشاعة فكرة الاستقرار الأزلي بعد عهود من “التشرّد والمعاناة” ولو فوق أرض ليست أرضهم، ساهم بشكل كبير في استبطان ذاك الشعور بالأمن الكاذب.

ثانيا : ماذا ينقصنا في تونس لنصبح أسعد من الفنلنديين ؟ !

حاولت الاطلاع على أكثر من مصدر قصد التعرّف على الأسباب الكامنة وراء “سعادة الفنلنديين” التي تُرجعها كل المصادر إلى حسن التدبير الحكومي ورجاحة السياسات العامّة المتّبعة هناك، وتوفيقها في طمأنة المواطن الفنلندي على مستقبل بلاده ومصير أولاده، في ارتباط وثيق بالتقديس الرسمي لمكانة المعلّم ولياقة السكن و استدامة الشغل وإشاعة العدل بين الجميع وإرساء حق الاستمتاع بالطبيعة للجميع…

واكتشفت بكثير من الشعور بالغُبن أن بلدنا يتوفّر على أكثر بكثير مما يتوفّر لفنلندا والفنلنديين على مستوى المُقدّرات الطبيعية والامتيازات المناخية وإجمالي عدد السكان الذي لا يتجاوز بعض الملايين، يعمل جزء كبير منهم بمختلف أصقاع العالم ويضُخّون أموالا كبيرة في خزينة الدولة وكذلك على مستوى المخزون الهائل من الكفاءة العالية لبناتنا وأبنائنا في أهم المجالات الصّانعة لمجد المجتمعات اليوم في العالم… ولكن يُعيق تحويل هذه القوّة الكامنة إلى واقع جديد من التقدم والرخاء أمران اثنان حسب رأيي : أولا قُدرة حُكّامنا العالية عبر التاريخ على النظر دائما في الاتجاه الخطأ والتعامل مع تونس على كونها بلدا صغيرا  ليس بإمكانه إغراء العالم بأكثر من حُبيبات الرمل الحزين على شواطئنا. ويتمثل الأمر الثاني في مضاعفة الأول بعقلية متأصلة في أغلب مواطنينا عِمادها الاكتئاب الدائم والمزاج القاتم وترذيل النجاحات والعجز عن تلذّذ المذاقات التي لدينا، إلا متى عبرنا الحدود واكتشفنا وهمنا الباطني اللامحدود بأن سعادتنا عبرت المتوسط مع آخر جندي كان يحرس خيرات بلاده في بلادنا .

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن ربع قرن، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1997… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار