جور نار

على هامش صدور التقرير العالمي لمؤشرات السعادة

نشرت

في

منصف الخميري:

أرست الأمم المتحدة سنة 2012 تقليد إصدار تقرير سنوي حول توزّع منسوب السعادة في العالم وتصنيف البلدان حسب جملة من مؤشرات البهجة كما يتمثّلها الناس.

 وللسنة السادسة على التوالي أُعتبر الفنلنديون الأكثر إحساسا بالسعادة في العالم يليهم الدانماركيون والإيزلنديون والسويسريون والهولنديون. أما أفغانستان فقد احتلت الرتبة الأخيرة من حيث إحساس عامة المواطنين بالقحط والجدب وتعكّر المزاج مع لبنان والزيمبابوي ورواندا وبوتسوانا، وذلك إثر مسح شمل 150 دولة تولاّها معهد غالوب المتخصص في الإحصاء والاستبيانات اعتمادا على سؤال المواطنين حول كيفية تقديرهم لمستوى سعادتهم الذاتية، وجعل الأجوبة عنه تتقاطع مع جملة من المعطيات الموضوعية التي تهمّ وضع البلد برُمّته.

 لِمَ كل هذا الشعور بالسعادة في فنلندا ؟

من ضمن المؤشرات المعتمدة في تحديد مِحرار السعادة نجد معدّل الحياة بصحة جيدة، وإجمالي الدّخل المحلّي المُتاح لكل فرد، ووقع السّند الاجتماعي، والمستوى المنخفض للفساد، ودرجة الرضى عن أداء مرفق التعليم، وقيم التّضامن، وحرية التعبير إلخ…

احتلت فنلندا رغم شتاءاتها الطويلة والصعبة سنة 2023 المرتبة الأولى عالميا بنتيجة 7.82/10 متقدمة على فرنسا على سبيل المثال التي تحتل المرتبة 21 . والشعور بالسعادة لدى الفنلنديين بالنسبة إلى بعض المتابعين هو شعور خاص جدا باعتباره أقرب إلى إحساس بالاكتفاء والارتياح البسيطين أكثر منه وعي بالسعادة المكثفة والدائمة، في علاقة بعلامات البذخ والترف التقليديين. فبالنسبة إليهم ليست السعادة بالضرورة ذلك “الشعور الأوحد والحاد بل هو شعور أبسط من ذلك وكأنه شيءٌ في متناول جميع الناس مثل الماء والهواء” .

تقول مُدوّنة شعرهم في هذا الخصوص: “لا تقارن سعادتك ولا تجعلها محلّ تفاخر”.

الفنلنديون ينامون كثيرا ويأكلون ويشربون بشكل جيد ويُغذّون ما يُسمّونه بـ”السّيزو” SISU الذي هو مصطلح فنلندي أصيل متوارث منذ عصور قديمة ويعني حسب السياقات إما مبدأ معيّنا أو قيمة أو أسلوب حياة أو كذلك النحو الذي تتحوّل بموجبه الصعوبات إلى فرص للحياة  والمتعة. وهو مصطلح غير قابل للترجمة نحو لغات أخرى، فهو قوة الروح أو نوع من السلطة النفسية التي تمكّن من استجماع القوة ذهنيا وجسديا لمواجهة التحديات والصّعاب.

من أسباب سعادتهم أيضا تميّز علاقتهم العضوية مع الطبيعة والتمتع بعديد الأنشطة في الهواء الطلق في بيئة نظيفة وجذابة، وُلوجها مُتاح لجميع الناس : قرابة 90 بالمائة من الفنلنديين يعتبرون أن الطبيعة عنصر أساسي في حياتهم وتمضية الوقت وسط الغابات والمنتجعات والحدائق والمحميات يرفع من حيويتهم ورفاههم وشعورهم بالامتلاء الشخصي. بالإضافة إلى التوازن البنّاء الذي أوجدوه بين الحياة الخاصة والحياة المهنية مما سمح للعائلة الفنلندية بالمحافظة على تماسكها والاستثمار في ما يصنع “السعادة العامة المشتركة” عائليا ووطنيا، حيث أن جزءا كبيرا من السعادة يبنيه الفنلنديون على نحو جماعي من خلال المراهنة على التربية المُيسّرة للجميع والتقليص من اختلال التوازن بين الجنسين وبين الفئات الاجتماعية مع تعزيز الروابط الاجتماعية وإنماء الشعور بالأمان.

تذكر تفاصيل التقرير أن :

97 % من الفنلنديين راضون عن جودة مياه “السبّالة” التي يشربونها.

96 % منهم يعتبرون أن لدى لكل واحد فيهم “شخصا على الأقل يمكن الاعتماد عليه عند الحاجة“.

69 % منهم على الأقل يشاركون في المسار السياسي والانتخابي.

82 سنة هو معدل الحياة في فنلندا.

68 % من الفنلنديين يجيبون بنعم عن سؤال : هل أنت بصحة جيدة ؟

88 % يقولون إنهم يشعرون بالأمان عندما يسيرون لوحدهم في الطريق العام ليلا، في ظل تدنّ كبير لمعدّلات الجريمة والانحراف التي هي الأضعف في العالم.

يُذكر أيضا أن الفنلنديين يُولُون أهمية كبرى لقيمة الصدق والنزاهة. ففي “تحقيق المحافظ المفقودة” الذي أجرته إحدى المجلات التاريخية “ريدرز ديجست” والمتمثل في إضاعة محافظ أوراق في عديد بلدان العالم واحتساب عدد “الإرجاعات التلقائية“، كانت المدن الفنلندية في كل مرة هي من تفوز بالمرتبة الأولى عالميا بمعدل إرجاع 11 محفظة على 12. كما تُعدّ فنلندا من ضمن الثلاثة بلدان الأقل فسادا من قبل الهيئات العالمية المختصة. هي بعيدة عن أن تكون المدينة الفاضلة وإنما تؤشر هذه الأرقام على أن الفنلنديين “ميّالون” إلى التحلي بالنزاهة والاستقامة مقارنة بالشعوب الأخرى (وخاصة تلك التي تعرفون!).

ملاحظتان على هامش تقرير مؤشرات السعادة :

أولا : في أعلى الترتيب

من الأكيد أنه لا يمكن أن تكون سعيدا ومُبتهجا بقرار ذاتي كما تقول تعويذات التنمية البشرية، بل إن تضافر جملة من العوامل الموضوعية (الوضع الاقتصادي والسياسي العام ومستوى المعيشة وجودة الخدمات في مجالات التربية والصحة والنقل، والشعور بالانتماء إلى بلد نعتزّ بالانتماء إليه والإحساس بالأمن…) مما له تأثير مباشر على “الشعور الذاتي بالسعادة”. وفي الحالة الفنلندية والبلدان المرافقة لها فأعتقد وحسب ما تؤكّده كل المعطيات التي اطلعت عليها أن مستوى الرفاه العام المتأتّي أساسا من حوكمة جيدة لمُقدّرات البلد “المتواضعة” نسبيا مقارنة ببلداننا العربية على سبيل المثال، فنقاط قوة الاقتصاد الفنلندي تتركز على تصدير الخشب (77 % من مساحة فنلندا تغطيها الغابات بـ 23 مليون هكتار من الغابات) وتصدير الخبرة الهندسية والاتصالات والإلكترونيك والمفاعلات النووية وآلات التسخين والمعدات الميكانيكية والورق والجرّارات والنيكل والمنتجات الصيدلية والمطاط والمنتجات الكيمياوية العضوية …وبالتالي فإنه باستثناء الخشب المتوفّر طبيعيا تكاد تكون كل المنتجات الأخرى المُصدّرة إفرازا لعقل ذكي عرف كيف يوظف المعرفة والتكنولوجيا والطبيعة في خدمة سعادة الناس وهنائهم.

وما هو لافت في هذا المجال أن دولة الكيان الغازي تحتل إحدى المراتب العشرة الأولى  بما قد يعني أن المستوطنين الغاصبين لأرض غيرهم يتمتّعون بمستوى عيش ومستوى خدمات عامة تجعلهم يطمئنون إلى مستقبلهم، رغم شعور شريحة واسعة منهم أن لا مستقبل حقيقي لمن يتوقّع انفجار اللغم الفلسطيني تحت قدميه في كل لحظة. تقديري أن نجاح منظّريهم في إشاعة فكرة الاستقرار الأزلي بعد عهود من “التشرّد والمعاناة” ولو فوق أرض ليست أرضهم، ساهم بشكل كبير في استبطان ذاك الشعور بالأمن الكاذب.

ثانيا : ماذا ينقصنا في تونس لنصبح أسعد من الفنلنديين ؟ !

حاولت الاطلاع على أكثر من مصدر قصد التعرّف على الأسباب الكامنة وراء “سعادة الفنلنديين” التي تُرجعها كل المصادر إلى حسن التدبير الحكومي ورجاحة السياسات العامّة المتّبعة هناك، وتوفيقها في طمأنة المواطن الفنلندي على مستقبل بلاده ومصير أولاده، في ارتباط وثيق بالتقديس الرسمي لمكانة المعلّم ولياقة السكن و استدامة الشغل وإشاعة العدل بين الجميع وإرساء حق الاستمتاع بالطبيعة للجميع…

واكتشفت بكثير من الشعور بالغُبن أن بلدنا يتوفّر على أكثر بكثير مما يتوفّر لفنلندا والفنلنديين على مستوى المُقدّرات الطبيعية والامتيازات المناخية وإجمالي عدد السكان الذي لا يتجاوز بعض الملايين، يعمل جزء كبير منهم بمختلف أصقاع العالم ويضُخّون أموالا كبيرة في خزينة الدولة وكذلك على مستوى المخزون الهائل من الكفاءة العالية لبناتنا وأبنائنا في أهم المجالات الصّانعة لمجد المجتمعات اليوم في العالم… ولكن يُعيق تحويل هذه القوّة الكامنة إلى واقع جديد من التقدم والرخاء أمران اثنان حسب رأيي : أولا قُدرة حُكّامنا العالية عبر التاريخ على النظر دائما في الاتجاه الخطأ والتعامل مع تونس على كونها بلدا صغيرا  ليس بإمكانه إغراء العالم بأكثر من حُبيبات الرمل الحزين على شواطئنا. ويتمثل الأمر الثاني في مضاعفة الأول بعقلية متأصلة في أغلب مواطنينا عِمادها الاكتئاب الدائم والمزاج القاتم وترذيل النجاحات والعجز عن تلذّذ المذاقات التي لدينا، إلا متى عبرنا الحدود واكتشفنا وهمنا الباطني اللامحدود بأن سعادتنا عبرت المتوسط مع آخر جندي كان يحرس خيرات بلاده في بلادنا .

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version