قديما كانت الغابات في عين دراهم هي مصدر الحياة و مصممة اسلوب عيش الناس فيها … فمنها بنى أجدادنا مساكنهم فكانت الجدران من أعواد الريحان و الأعمدة من جذوع الزان و الغطاء من أغصان الفرنان و الديس أما الأفرشة فكانت من يانع الأعشاب كالفرسيق و البرواق … كانت الأعراس تقام في الليالي المقمرة بأغصان القندول الذي يشتعل و حول لهبه تعلو زغاريد النسوة تحت دق الطبول و رقصات الرجال… كانت الغابة مرعى الماشية و مسرح أغاني النسوة التي تجلب منها كُسار حطب أسقطته الثلوج لتتدفأ به الأسرة في زمهرير الشتاء و عليه يطبخ الأكل … كانت الأغاني و الأهازيج تنطلق من الغابة حيث تتفجر العيون الجارية التي تتجمع حولها الصبايا ليرِدن الماء العذب و يتبادلن أطراف الحديث … في الغابة كان النحل يقطن ما بين الأشجار ليصنع عسلا لذيذا يبحث عنه الرعاة و يعودون في أواخر الربيع بغنيمتهم من أقراص الشهد، فتتحلق الأسرة حولها يتذوقون طعمه …
من الغابة كانت الجدات تجمعن القضّوم لتعصرنه و تحفظنه ذخرا لوقت الحاجة بين أحضان الغابة كان الأطفال يمرحون و يتلذذون طعم التوت صيفا و الأرنج و العذارى شتاء من الغابة … كل شيء جميل تحت شجرة الخفّاف أو الزان كان الملجأ من الأمطار الغزيرة شتاء و حماية من حرارة الشمس صيفا … حول غصن من الصنوبرة كانت الأرجوحة تحلق بنا نحو الفضاء فتشعرك بمتعة ممزوجة بخوف الصغار … تحت ظلال الفلّينة كانت الأقارب تجتمع لتنعم بالهواء النقي و تترشف الشاي ببندق الغابة الطازج … على جبال الغابات كانت الماعز تمارس رياضتها وتبحث عن قوتها فتنقش صورة رائعة على لحاء الفرنان و الضرو … كان الأهالي يصنعون المقاعد البسيطة و أواني الأكل مما يتيحه المحيط، فمن الجفان أنواع و من الملاعق أحجام، ومن الطين المجلوب من الغابة صنعت المرأة أواني الطبخ، من تحت السرو و الصنوبرالحلبي جمع الإنسان الفقاع و البلّوط غذاء للماشية و نبتت أنواع عديدة من الخضر البرية كالكرفس الجالي و السلق الجالي و الكرّاث الجالي و غيرها … و من وهاد الغابة جنى الإنسان أعشابا طبية نافعة …
و لكن منذ سنوات حرم السكان من خيرات الطبيعة البكر، فهوجمت الغابة بكل شراسة و حل محل الماعز الخنزير البري الذي ظل يتكاثر حتى قضى على مصدر عيش أهلها و راح يلتهم الأخضر و اليابس فيما عمد الهمج إلى إشعال النيران و إحراق كل جميل فهربت العصافير و هاجر نسر خمير أيقونتنا و سافر النحل إلى أماكن أكثر أمانا … احترق البقر الوحشي و كل حيوانات الغابة و فُتحت مسارب للتهريب و الإرهاب … وما تزامن الحرائق المتعددة في صائفة واحدة إلا دليل على أن أياد عابثة لها ضلع في مأساة الغابة، و باعث شك في أعداء الحياة والجمال … و مَن مِن سكان الشمال لا يذكر تلك الأيام العصيبة التي اختنق فيها السكان وأهدرت فيها طاقات رجال المطافئ بسبب وعورة المسالك و هبوب رياح الشهيلي؟
صارت النسوة يخشين ارتياد الغابة بعد أن هجم السراق على المواشي في مراعيها و احترق الفلين و الزان و بكت المرأة على شياهها و طيورها المحروقة أمام عينيها … صارت الخمائل و العيون الجارية أوكارا للدعارة و العربدات الخمرية و أحيانا مصبا للفضلات … و ظلت الغابة تقاوم بأمطارها و ثلوجها ما يفعله بها الإنسان … دون الحديث عن مجازر قطع الأشجار بالمئات و الآلاف بعد أن طالتها أيادي شياطين الإنس و مافيات الخشب النفيس خاصة … و أحراشنا تستنجد و تصرخ أين أهلي أين إدارة الغابات أين وزارة البيئة و لا من مجيب … فقد نُحرت الأشجار في الليالي المقمرة و ناسها نائمون
تخلينا عن تربية الماعز الذي يتغذى من أوراق الغابة وينفع البشر بحليبه و لحمه و تركناها مرتعا للخنزير الذي ينتظر صيادين من بلدان أخرى قد يأتون أو لا يأتون … فأي يوم للغابة؟ أهو للاحتفال بها أم للبكاء عليها؟ إن السلطات تنظف الشواطئ كل بداية صيف، فلماذا لا تهتم بتنظيف أرجاء الغابات مما طالها من زجاج قوارير مكسور متناثر في فجواتها مسببا للحرائق … لماذا أيضا لا يمنع إشعال النار تحت الأشجار كما تفعل البلاد المتحضرة؟ ألا تستحق الغابات أن نغار عليها و أن نحميها؟ ألا يمكن مثلا أن تنظم حملات تنظيف فى شكل احتفالي مع بداية كل صيف و تساهم فيه كل الجهات و مكونات المجتمع المدني و الكشافة و أبناء المدارس؟ ألا يمكن تشجيع سكان الريف و سفوح الجبال بتوفير مساكن لائقة لهم و تخصيص حوافز لهم و حماية لبيئتهم من وزارة الفلاحة حتى يحرسوا ملكنا الغابي و الجبلي و يتمسكوا به؟
لا افهم معنى الاحتفال بأيام الغابات في بداية الشتاء فتمرّ دون أن يعلم بها أحد … هل الطقس مناسب للاحتفال و لماذا لا يكون ذلك صيفا و الاهتمام على كامل السنة بمنظومة بيئية هشة كم أوصت الأمم المتحدة بصيانتها … و كم بلادنا في حاجة إلى غطائها الغابي السائر نحو الانقراض … و كأنه لا يكفينا أن عددا مهولا من جبالنا فقد كساءه النباتي و انجرفت تربته بعد ذلك … فتحوّلت إلى كتل صخرية ملساء جرداء أو إلى مقاطع حجارة و بارود و غبار …