كان معلما موهوبا له قدرات فائقة في اللغة الفرنسية وإن كان له باع في اللغة العربية يجيدها مشافهة وكتابة … حدّثني رحمه الله عن بداياته في ڨعفور . مدرسة يديرها فرنسيّ ( ڨاوري كيما كانوا يقولوا أو بوبرطيلة) . مدرسة بها معلمون فرنسيس و توانسة .
و اختار أن يتأسى بالفرنسيس في حياتهم داخل بيوتهم و في طريقة تفكيرهم وتعاملهم مع المهنة . كان مؤمنا بقيمة الزمن وضرورة استغلاله في صالح التلاميذ وتطوير أدائه المهني : المطالعة و مواكبة المدرسة العصرية وانفتاح المدرسة على محيطها الطبيعي والجغرافي خدمة للبرامج التعليمية و ضمانا لنتائج تسرّ الجميع . و أذكر أنه عبّر لي عن صغر سنّه آنذاك بقوله (مانيش عارف وقتها بديت نحجم لحيتي والا مازلت !) وكان يعقب كلامه بضحكة فيها ارتياح وتلذذ بنكهة الماضي .
“مسيو” علي البقلوطي معلم السنة السادسة لفت انتباه المدير الفرنسي الذي قاده يوما إلى قاعة كبيرة فيها ما يلزم لطباعة جريدة أو مجلة بحروف الرصاص التي تصفّف حرفا حرفا . ” الله ، الله يا علي . هاذا اللي تلوج عليه ! ” وكانت البداية وتأججت في نفسه رغبة جامحة في استغلال هذه القاعة .وتمّ له ولتلاميذه الذين يكبرهم بأقل من 10 سنوات . وكما قال سي شريف الوسلاتي وهو أحد تلاميذه : لا تكاد تفرّق بينه وبين تلاميذه في قسم السّرتفيكا من الدرجة العليا الثانية ( 7 ابتدائي) .
ذلك الشاب المبتسم دائما والذي يذلل الصعاب ويتوفق في تحقيق أهدافه نجح في مناظرة شهادة الكفاءة الصناعية للتعليم الابتدائي في حين فشل زملاؤه و تعثروا رغم وأنهم أكبر منه سنّا وأقدمية في التعليم بصفة وقتية . وليس ذلك فحسب بل قدّم دروسا مثالية بحضور زملاء أقدم منه في التعليم لكنه كان يتفوق عليهم بعلمه و مواكبته المستمرة لكل جديد . وهذا يثير حفيظة البعض و يشعرهم بالعجز عن مسايرته .
ومما رواه لي رحمه الله أنه كان يخرج بالتلاميذ من حرم المدرسة ليكتشفوا على سبيل المثال الهكتومتر (100م) و الكيلومتر ( 1000م) بالقيس الفعلي دون الاكتفاء بالجداول التي تسطر على السبورة وفي الكراسات . كما كان يبرمج خرجات ترفيهية للتلاميذ وسيلتهم في التنقل القدمان فقط . وكان يستغل الحساب والهندسة في تمرين تطبيقي برسم ملعب للعب كرة القدم ( الركنية / الزاوية القائمة و الطول والعرض ومنتصف الملعب و الستة أمتار والثمانية عشر مترا ) وكان يلعب معهم .وذكر لي أنه درّس المرحوم محمد علي عقيد في مدرسة بوڨطفة بطريق المهدية . كما كان على وعي تام بأن الجانب التطبيقي في التعليم مهم مثل الجانب النظري .
جانب آخر قد لا يعرفه كثير من الناس عن المعلم علي البقلوطي وهو أنه مغرم بالتصوير الفوتوغرافي وكان حين يعود الى صفاقس على دراجته النارية ( Scooter) يمر بالمواقع الأثرية فيصورها ويستخرجها في شكل شرائح لاستغلالها في الجغرافيا أو التاريخ من خلال آلة عرض ( Diapositives ). أخبرني بأن هذه الثروة الوثائقية لا تزال موجودة في بيته .
وقبل الختام أسوق طرفة أخرى عندما كان رحمه الله بالمرحلة الابتدائية .وتتمثل في تكليفه من قبل معلمه بكتابة مثال الخط على الكراسات بدلا من المعلم لجمال خطه . ولما أنهى المهمة وهمّ بالانصراف قدم له عون التنظيف نقودا و بين له أن سيده تركها له وهو الذي كان يظن أنه لبى طلب معلمه مجانا حبا وكرامة لسيده .
وأختم بما رواه لي رحمه الله عن دخوله مجال الدروس الخصوصية رغما عنه حينما كان معلما بمدرسة “ألكسندر دوما” بباب البحر و حين قرر مجموعة من أطباء صفاقس يدرس أبناؤهم عنده بأن يعطيهم دروسا خصوصية وحددوا السعر بـ 10 دنانير للتلميذ الواحد و شهرية المعلم آنذاك 57 دينارا فكان نصيبه من الدروس الخصوصية يفوق مرتبه !
رحم الله معلمنا المربي الموهوب متعدد المواهب علي البقلوطي الذي ترك بصماته في شخصيات تلاميذه وتمكن من كسب صداقاتهم و التواصل معهم .