تابعنا على

جور نار

عندما تنكمش الدولة وينتعش الأدعياء … عمادة المهندسين تهدّد الطلبة بالسجن !

نشرت

في

للدولة التونسية وزارة للتعليم العالي والبحث العلمي تضمّ في هيكلتها العام إدارة عامة للتجديد الجامعي “تُعنى بمشاريع التجديد الجامعي المتنوعة والمتعلقة خاصة بتجديد عروض التكوين في مختلف مؤسسات التعليم العالي والبحث في القطاعين العام والخاص، وتطوير المهننة في التعليم العالي وإحداث مسالك تكوين منجزة بالبناء المشترك بين الجامعيين والمهنيين…ونشر ثقافة المبادرة وإحداث المؤسسات وبعث المشاريع … “، وبالتالي فإن تأهيل المسارات التكوينية وبعث العروض الجامعية أو إعادة النظر فيها كليا أو جزئيّا وتحديد المقاييس العلمية الدقيقة لنيل الشهائد هو من الاختصاصات الحصرية لأجهزة الدولة الرسمية، بعد الاستئناس برأي الهيئات المهنية ذات العلاقة (بصفة استشارية)  ورأي الخبراء والمختصين عند الاقتضاء.

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

إلا أن عِمادة المهندسين طالعتنا ومنذ 12 أوت 2020 ببلاغ موجّه إلى حاملي الباكالوريا الجدد  تعتبر فيه أن قرار بعث مراحل تحضيرية جديدة للدراسات الهندسية في القطاع العمومي (في القطاع العمومي نعم !) هو “قرار مُرتجل وينعكس سلبا على جودة التكوين الهندسي” وأنها “ستجد نفسها مُرغمة على عدم الاستجابة لمطالب التسجيل بجدول العمادة التي سيتقدّم بها كافة الناجحين في باكالوريا 2020 الذين سيختارون التسجيل بالشعب التي حدّدتها العمادة” … وهي :

المراحل التحضيرية المندمجة بكلية العلوم ببنزرت والمعهد العالي للإعلامية والرياضيات بالمنستير وكلية العلوم بصفاقس والمعهد العالي للإعلامية والملتميديا بقابس …(7 مراحل تحضيرية جديدة في تلك الفترة).

“وتُذكّر العِمادة بأن ممارسة مهنة المهندس تستوجب قانونا الترسيم بجدول العِمادة وكل مخالف لذلك يعتبر مباشرا للمهنة بصفة غير شرعية ومنتحل صفة مهندس ويُعرّض نفسه للعقوبات المنصوص عليها بالفصل 159 من المجلة الجزائية …”

لكن ما هو منطوق الفصل 159 الذي تُهدّد به العِمادة حاملي الباكالوريا ؟

يقول المُشرّع : “يعاقَبُ بالسّجن لمدة عامين وبخطية قدرها مائتان وأربعون دينارا كل من يتزيّا لدى العموم بلباس أو زي رسمي أو يحمل وساما دون أن يكون له الحق في ذلك ويستوجب نفس العقوبات كل من ينسب بنفسه لدى العموم أو بالوثائق الرسمية صفات أو أوسمة.”

وبعد التيقّن من أن مؤسسات التعليم العالي العمومي التي احتضنت مراحل تحضيرية للدراسات الهندسية لم يتسنّ لها ذلك إلا بعد احرازها على التأهيل العلمي وفق ملفّات ثقيلة جدا عُرضت على اللجان القطاعية العلمية بالإدارة العامة للتجديد الجامعي والتي تتضمّن كل التفاصيل المتصلة بمضامين التكوين في كل المراحل الدراسية ونظام التقييم والامتحانات والتربصات وإطار التدريس والشراكات المُبرمجة الخ… التفتت عِمادة المهندسين جهة مؤسسات التعليم العالي الخاص بعد إعلان نفسها الجهة المخوّلة قانونا للقيام بزيارات تفقدية إلى مدارس تكوين المهندسين في العمومي والخاص (بديلا عن جهة الإشراف الوحيدة وهي وزارة التعليم العالي بأجهزة مراقبتها ولجان متابعتها …) وقرّرت أن أربع مؤسسات لم تفتح أبوابها أمام “مفتّشي المواصفات” لعِمادة المهندسين التي تعتبر أنه من صلاحياتها إسقاط تأهيل معلّل ومبرّر ومؤصّل ومفصّل أصدره وزير التعليم العالي، وبالتالي على المتخرّجين من هذه المؤسسات أن يحذروا الفصل 159 من المجلة الجزائية الذي لا يُجرّم المؤسسة التي مارست تجاوزا (إن وُجد) بل الطلبة المتخرّجين منها حسب من يصوغ البلاغات في هيئة المهندسين!!!

هذا صلفٌ واغترار  واستقواء على الدولة !

من الزاوية الأخلاقية المحضة، كيف تسمح هيئة مهنية لنفسها بتحميل مسؤولية “الاختلالات المُفترضة في التنظيم والتأهيل والمراقبة لبعض المسارات الأكاديمية” لمئات الطلبة التونسيين الذين اختاروا مزاولة دراستهم في الاختصاصات الهندسية (في العمومي والخاص على حدّ سواء) وتهديدهم بالقوانين الجزائية المجعولة أصلا لحماية المجتمع من فئة من المجرمين “ينتحلون صفات مختلفة للإيقاع بضحاياهم” ؟ !

ثمّ لماذا حوّلت عِمادة المهندسين – بعد سقوط ورقة مؤسسات التعليم العالي العمومي غير المؤهلة- سِهامها نحو التعليم العالي الخاص مستغلّة بعض الترسّبات “الشعبويّة” في ذهنيّة كثير من التونسيين لا يرون أية آفاق للتميّز خارج منظومة التعليم العالي العمومي ويعتبرون أن مآسي الجامعة التونسية متأتية من ازدهار المؤسسات الخاصة، ويعتبرون كذلك أن عدم اجتياز المناظرة الوطنية لمدارس المهندسين هو امتياز غير عادل الخ… ؟ وهذه الأخيرة في اعتقادي ذريعة لا تصمد كثيرا من الناحية المنطقية لأنها من ناحية “صيغة فرنكوفونية لتكوين المهندسين” تمّ تجاوزها واستبدالها في كثير من بلدان العالم المتقدّم ومن ناحية أخرى، عوض المطالبة بتعميم المناظرة، لِم لا تتمّ المطالبة بإلغاء المناظرة واستبدالها بصيغة تقييم داخلي في كل مؤسسة تعتمد مقاييس صارمة وتأخذ بعين الاعتبار كامل المسار الدراسي للتلميذ “المهندس” ؟

أعتقد أن الأصل في الأشياء هو أن نرتقي بأداء التعليم العالي العمومي حتى يصبح في نفس مستوى جودة بعض مؤسسات التعليم العالي الخاص (التي تميّزت وفرضت خرّيجيها في سوق الشغل العالمية : وما عليكم إلا أن تقارنوا عدد الملتحقين بكبرى المدارس الهندسية في فرنسا من تحضيري المرسى العمومي على سبيل المثال بعدد المقبولين في نفس المدارس من بعض مؤسسات التعليم العالي الخاص) وليس أن نطالب هذه الجامعات بمسايرة نسق تطور المنظومة العمومية.

وتجدر الإشارة كذلك إلى أن الناجحين في الباكالوريا ـ خاصة من الباكالوريات العلميةـ لا يختارون التعليم العالي الخاص لكون عائلاتهم بوسعها تمويل دراساتها (فقط) وإنما أيضا لأن سياسة التضييق والحوكمة السيئة في مجال التصرف في مُخرجات التعليم الثانوي ساهمت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة في التحاق شريحة هامة من حاملي الباكالوريا بالجامعات الخاصة (حتى لينتابك الشعور أحيانا بأن هنالك تشابكا سببيا بين هذا وذاك).

بناء على ذلك، أقدّر شخصيا أن الطرف الذي من المفترض أن يُطالَبَ بالتأهيل هو عِمادة المهندسين نفسها، لأنها مازالت تتصوّر أن مجرّد التسجيل بجدول العمادة يفتح كل الآفاق واسعة أمام المترشحين لسوق الشغل ! والحال أننا نعلم جميعا أن حوالي 3000 مهندس تونسي يغادرون سنويا البلاد التونسية نحو كبرى الشركات العالمية (وهو أمر مأسوف عليه لأنهم يشكلون ثروة وطنية كان من الممكن توظيفها في تطوير النسيج الصناعي والاقتصادي والمالي الوطني بدلا من وضع كفاءاتهم ومهاراتهم على ذمّة الاقتصادات العالمية. فهل تعتقد أن مهندسا في حجم خالد قوبعة على سبيل الذّكر كان ينتظر التسجيل بعِمادة المهندسين قبل احتفاء غوغل بكفاءته ثم شركة فايسبوك بمهارته في الفترة الأخيرة ؟! 

فالمهندسون التونسيون المتخرجون من الجامعات التونسية العمومية والخاصة (وهذا هو الوجه الآخر من المفارقة) يتمتّعون بتكوين وخبرة وجدية وروح مثابرة وقدرات اتصالية تؤهّلهم لاكتساح مختلف بلدان العالم في شركات ومؤسسات إنتاجية وصناعية وخدميّة وبنكية لا تعترف بمقاييس الانتداب البائسة من قبيل “أشكون بعثك” و “ولد أشكون”  و “عندك لوك تباركالله” و “فلان آش يكون منّك” الخ…ويساهم هؤلاء “المهدّدون بالفصل 159 من القانون الجزائي” في ضخّ الملايين من العُملة الصّعبة للخزينة التونسية ويتولّى كثير منهم توظيف مهندسين آخرين واستكشاف مواطن تربّص واعدة لطلبة تونسيين قبل التخرّج…

من هذا المنطلق، الأوْلى بعِمادة المهندسين أن تخوض معركتها على صعيد آخر في سبيل تحسين وضعية المهندسين المباشرين في تونس (خاصة في المؤسسات الوطنية العمومية والوزارات التقنية) وحمايتهم من الاستغلال وسوء التوظيف…فمجرد مقارنة الأجر الذي يتقاضاه المهندس التونسي في تونس بنظيره في الخارج يُصيب بالخجل والإحباط.

أقول أخيرا :

أعجب حقيقة للصّمت المُطبق الذي تنتهجه وزارة التعليم العالي إزاء التهديدات التي تأتيها عمادة المهندسين منذ 2020 (باستثناء تصريح يتيم للوزير الذي لو لم يُسأل عن رأيه في إذاعة خاصة أثناء زيارة ميدانية لما تحدّث في الموضوع)… خاصة أثناء تعمير الطلبة الجدد لبطاقات اختياراتهم في التوجيه الجامعي والهلع الكبير الذي أصابهم أمام انتصاب العمادة مخاطبا رسميا لهم ولعائلاتهم بدلا من الوزارة وأجهزتها (فمن الذي ينتحل صفة غير مخوّلة له قانونا في الواقع ؟).

لقد حدث أيضا أن قامت وتقوم بعض النقابات برفض تعيين رسمي هنا وطرد مسؤول مباشر هناك، وهو سلوك من نفس جنس ممارسات عمادة المهندسين يترجم استضعافا للدولة وتجاوزا خطيرا للصلاحيات الأصلية الموكولة إلى كل طرفـ، ومدخلا للإجهاز النهائي على ما تبقّى من أركان دولة مُثخنة بجراح غائرة تسبّب بها أبناؤها قبل أعدائها.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن الثلاثين سنة، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1991… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار