جور نار

عنقاء بأربع عجلات (6)

نشرت

في

حكاية مهندسينا مع السيارة حكاية من أعجب ما يكون … هم بداية لا يصنعونها ولا يصممونها، بل يتعاملون معها مثلي ومثلك (“والخيل والبغال والحمير لتركبوها”) … ومع ذلك لا يكاد أحدهم يراها حال نزوله منها …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

لو تذهب إلى وزارة التجهيز أو الفلاحة أو عديد الإدارات المسماة فنية، فستجد أسطول عربات في حجم الأسطول السادس … سيارات من مختلف الماركات على شاحنات على شاحنات خفيفة على 4×4 على جرارات على تراكسوات على بوكلانات على ڨرڨيبات إلخ … ومعظم هذه المركبات موضوعة (جهات ومركزا) على ذمة مهندسي المكان… لذلك ليس من النادر أن تتوقف تحت نظرك في الخلاء المخلي، كميونة رسمية أو سيارة رباعية الدفع، تحمل الرمز المنجمي 11 أو13… وينزل منها شخص بقميص بعضه خارج من البنطلون، مع صندال في قدميه ومظلة فوق رأسه … لا، لا تتسرع، فالرجل ليس أمّيا و لا راعي غنم أو من المشتغلين في الكنترة … بل هو متعلم ذو شهائد باك + 5 وبرتبة “جنيور” …

ورغم أن أملاك الوزارتين من السيارات يتجاوز ما هو تحت تصرف وزارة النقل، فإن أولئك التقنيين الكبار وحين يصممون شيئا ينسون تماما أن الحضارة اخترعت منذ 134 عاما هذه الآلة المسماة سيارة، وأن لنا منها في تونس اليوم أكثر من مليوني كعبة … وهذا رقم مر عليه عامان بعد … إذن سواء في تخطيط الطرقات، أو تصميم الأحياء، او حتى بناء العمارات ومقار الوزارات والشركات، يغيب تماما التفكير في مشكلة بسيطة: أين مكان السيارة، مرورا أو وقوفا أو توقّفا؟ … لا جواب … بل لا تخطر هذه الجزئية على بال أحد من أصحاب الكميونة الرسمية أعلاه… وربما حجبت تلك المظلة رؤيتها، حجبها لأشعة الشمس الحارقة …

جميع أمثلة العمارات التي تنجز في بلدنا تقرأ حساب الغرف، والمكاتب، والصالونات، والشرفات، والمطابخ، وبيوت الاستحمام، ودورات المياه، و المدارج، والمعابر، والمقاصر … وتقف هناك … وهناك فيهم من يخصص مساحة صغيرة جدا أمام العمارة أو تحتها، تتسع ممكن لعشر سيارت مثلا … في حين أن العمارة بها عشرون شقة على الأقل، بكل شقة عائلة، وبعض العائلات لها سيارتان، فاجمع واطرح مكانهم … كما أن في بعض الشقق مكاتب مهن حرة أو مقرات شركات، وهنا يزداد العدد مضافة إليه سيارات الزوار والمتعاملين مع تلك المهن والشركات …

نبني مستشفيات و لا نفكر في سيارات مرافقي المرضى ولا زائريهم، و لا تفكير حتى في سيارات العاملين أطباء وأشباه أطباء وغيرهم … هم 700 أو 800؟ لا يهمّ… نخصص موقعا بأربعين أو خمسين مكانا للمسؤولين ورؤساء الأقسام والبقية كل وحظّه ومن سبق أكل النبق كما يقال … أمامكم الشارع العمومي وكل واحد وتدبير رأسه، مطلوب فيكم أنا؟؟ … وما يقال عن المستشفى يقال عن المؤسسة التعليمية والبريدية والبلدية وكافة إداراتنا ومقاصدنا …

في بنعروس (كما في أريانة) ارتأت الحكومة تجميع عدد من المصالح الإدارية الجهوية في مركّب واحد … جميل من حيث تقارب الخدمات، ولكن وبعد؟ أين يربض المواطنون بسياراتهم؟ … هنا تجد أرضا خلاء غير مبلّطة أمام الإدارات، ضع فيها سيارتك رغم أن البقعة كلها حفر ووهاد تتحول عند المطر إلى برك وأودية وخضمّ أوحال … ترضى بذلك راجيا أن يتم إتمام المأوى ذات يوم، رغم أن شيئا ما في قرارة قلبك يقول بأن الأرض معدّة لشيء آخر عدا الاهتمام بك وبسيارتك … وفعلا، ما إن تمضي بضعة أشهر حتى ترى أمامك الحفّارين والبنّائين يرفعون عُمُدا ويقيمون حيطانا، وبعد مدة تجد أن نصف المساحة قامت عليها محطة بنزين جديدة … أي والله … ويقول أحد الخبثاء ـ والعهدة عليه ـ إن الكيوسك على ملك شقيق رئيس حكومة سابق، إبّان فترة حكمه طبعا …

هذا في المباني حديثة البناء على أرض بيضاء… ولا تسل عمّن يهدمون فيلا سكنية قديمة أو مستودعا إيطاليا عتيقا، ويقيمون مكانهما عمارة للاستغلال العقاري … و لا عن المحاضن ورياض الأطفال والمدارس الخاصة المتكاثرة كما اتفق، حيث تتكدس سيارات الآباء والأمهات لإيصال الأبناء أو العودة بهم .. و لا عن هذه المراكز التجارية ومغازات “عزيزة” التي تنشأ في أحيائنا وبين المساكن كالفقاقيع … فهي فضلا عن قتلها لنشاط العطّارة والزرارعية وغيرهم من صغار التجار، فقد أحدثت بحيّك الهادئ ضخبا واكتظاظا لا عهد له بهما … .وها أن السيارات تتراكم أمام منزلك ومنازل الأجوار وتمنعك منعا من الخروج أو الدخول …

من جهة أخرى وحتى يكتمل المشهد، فإن معظم شوارعنا طويلة جدا ومتعبة للراجلين والسيارات على حد سواء … لا توجد في أثنائها أية فتحة تجعلك تمر إلى الشارع الموالي إلا بعد أن تطوف بالكرة الأرضية كلها … كما أن مقاييس الأنهج والشوارع عندنا يبدو أنها موروثة عن العهد الفاطمي … إذ يقال إن جوهر الصقلي حين غزا مصر وأسس القاهرة، خطط لها شوارع تتسع “لحمولة حمار من الجانبين” كما يقول المؤرخون … وقد حافظ مهندسونا على هذا المعيار وهاهي أنهجنا وطرقاتنا في معظمها تنسدّ لأقلّ شاحنة تمرّ أو سيارة تتعطب … أضف إلى ذلك جشع بعض الباعثين العقاريين الذين لا يريدون التفريط في أي شبر لفائدة الطريق العام والملك العمومي … تعاضدهم في ذلك رقابة متواطئة لبلديات فاسدة تعطيهم الرخصة كما يحبون ويشتهون …

لذلك تختنق عندنا الأحوال في كل ساعة ذروة، وساعات الذروة صارت اليوم كل ساعات النهار … فنضطر في كل مرة إلى مداورة المشكلة ببناء جسر علوي أو محوّل عند مداخل المدن وحتى بين مفاصلها … وحين يغصّ ذلك الجسر نقيم جسرا ثانيا، ثم ثالثا، وتواصل الأمر ويتواصل وسيتواصل إلى ما لانهاية … و لا يهمّ بعد ذلك إن تحوّلت مدننا إلى ما يشبه لعبة “الجبال الروسية” في دحدح … ولا يهمّ إن شوّه ذلك مظهر هذه المدن وطمر كثيرا من معالمها، وقلبي هنا على نزل الـ “لاك” (البحيرة) بتصميمه الجميل الفريد في قلب العاصمة … وقد هجمت عليه قنطرة “زاد 4” وهي تمرّ بضجيجها وتلوّثها ليلا نهارا لصق نوافذه وشرفاته …

تريد انفراجا لكل هذا؟ لا جواب لي فلست مهندسا ولا مبرمِجا ولا مصمم طرقات ولا حتى مصمم أزياء … أما أهل الذكر فقد وجدوا الحل في مزيد إغراق طرقاتنا المتعوسة بآلاف مؤلفة من السيارات المستوردة في كل عام، والإجهاز على ما بفي من نقلنا العمومي، ورمي كل المسؤولية على الذين سبقوا أو ماتوا … لا تنس أيضا أن هذه الأزمات فيها خبر مفرح لا محالة، وهو انتعاش شركات الكبّالات والشنڨالات والخطايا الثقال … وهي للحقيقة شركات تشغّل يدا عاملة ويسترزق منها رأس مال ورساميل … تماما كما تسترزق طوائف شتى من المقاولين والباعثين ووكلاء التوريد ومئات المسؤولين كبارا وصغارا ومتوسطين …

فهل أنت ضد التشغيل والاسترزاق أم ماذا؟؟؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version