تابعنا على

جور نار

عيد سعيد … وبعض المرح المُفيد

نشرت

في

يطيبُ لي أوّلا -وأنا جادّ في ذلك- أن أهنّئكم بعيد الفطر المُبارك متمنّيا لكم ولذويكم عميم الصحة وعظيم الغبطة والسعادة بين أهلكم وأحبّتكم وتحت خيمة الحنين إلى أعزّاء غادرونا وحملوا معهم قطعا مهمّة من قلوبنا،

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

كما يطيبُ لي أن أعود ثانيا بالحديث عن بعض الظواهر الرمضانيّة التي لا نعيشها كتونسيين إلا خلال هذه الفترة الفريدة من كل سنة، غايتي في ذلك اتخاذ بعض المسافة الضرورية إزاء ما يُغرقوننا به دوريّا خلال شهر كامل (أي حوالي ألفي يوم إذا كُتب لنا أن نحيا 70 عاما) من مضامين إعلامية خاصة وخطاب يُعدّونه خصيصا لنا نحنُ دون غيرنا وحيال سلوكات يومية تنمو وتتعزّز لدى الدولة والأفراد تكون بصورة عامة فوق المساءلة، وعيا من الجميع بأن شهر الصيام والفطام هو شهر التسامح والتصالح بين جميع الناس من كل الشرائح.

أوّلا  : المرأة تتحوّل إلى “وكالة لغوْث اللاجئين” خلال شهر رمضان (بالعاميّة، المْرَا تولّي أُونْروا UNRWA)

اعترضتكم بالتأكيد تدوينات أو تعاليق أو أحاديث مشيخيّة ذُكوريّة بطبيعة الحال تحتفي بدور المرأة في المطبخ خلال جزء كبير من يومها الأزرق، وتسعى إلى ردّ الاعتبار إليها ومكافأتها عن مجهودها الخرافي في سبيل إطعام قبيلة بأكملها ينام ثلثا أفرادها إلى غاية الرابعة مساءً… تقول أغلب هذه الاعترافات البَعديّة بالجميل :

شكرا لزوجتي التي أطعمتنا في شهر رمضان،

اللهمّ أطعمها من ثمار الجنّة وبارك لي فيها.

وفي سياق آخر يتحدث كثيرون عن “حق الملح” باعتباره عادة تراثية تتوارثها الأجيال وتُكرّس حسب بعضهم “تكريم المرأة على جهودها خلال شهر رمضان، وتُجسّد عمق العلاقات الأسرية بين الزوج وزوجته”.

إن منطق التكريم والتبجيل المشوّه هذا سئمته نساء العرب والمسلمين لأنه مجرد يافطات موجهة للمغالطة والتعتيم، على حقيقة الاستبداد والغطرسة التي يمارسها الذكور في مجتمع مازالت تُقتل فيه النساء وتُهان وتُسبى، لسبب “حيواني جبان” بسيط هو أن القدرات القتالية لدى النساء لا تسمح غالبا بالانتصار “عضليّا” على رجال يهيجون ويموجون أمام رغيف ينقصه بعض الملح … وهو للتاريخ- منطق مبتذل يُخرجونه من الدّرج في كل مرة لإلجام النساء وإسكاتهنّ، تماما مثل تبرير نظام تعدد الزوجات في القرن الحادي والعشرين، حيث يؤكد على سبيل المثال السيد علي جمعة المفتي السابق للجمهورية المصرية (من 2003 إلى 2013)، “أن الشّرع كرّم المرأة بزواج زوجها من أخريات … مشيرًا إلى أن تعدد الزوجات نظام أشاد به العديد من المفكرين في الغرب، ومنهم شوبنهاور، الذي أكد أن “قوانين الزواج في أوروبا” فاسدة، فقد جعلتنا نقتصر على زوجة واحدة فأفقدتنا نصف حقوقنا”… نعم هكذا… وتصدّقه العامّة.

ثانيا : كل الأشغال وكل الأعمال وكل المواعيد مؤجّلة إلى ما بين العيدَيْن

في خطابنا الموجّه للاستهلاك العلفي المركّز لا نشعر بأي حرج في توليد خطاب تلفيقي كاذب من قبيل “شهر رمضان شهر جهاد وعمل لا شهر نوم وخمول وكسل” … ولكن نسق العمل في الإدارات العمومية التي لا فقط تعمل نصف الوقت ولكنها تشتغل أيضا بأقل من نصف أعوانها ومسؤوليها وبنصف الأخلاق ونصف تقاليد حسن الاستقبال أيضا، وبترديد جُمل زراعية من قبيل “يا من عاش بعد العيد” و “خلّي بعد العيد تتحلّ العينين” و “هانا بديناها توّة نكملوها بعد العيد ان شاء الله” إلخ… كلها مؤشرات على أن شهرا بأسره من أيامنا  لا نحتسبه شهرا ثمينا، كباقي أشهر الحياة، يستمر فيه النبض بشكل طبيعي ويتواصل فيه الإنتاج والتحصيل والبحث والمُراكمة بصفة عادية ككل شعوب الأرض، بقدر ما ننذر جزءً كبيرا منه للحديث عن أحوال السوق وأسعار اللحوم وأنباء تحرير المخالفات ووصفات الأكلات ومداهمة إعداد المرطبات في البيوت والإسطبلات.

ثالثا : الأمة الوحيدة في الكون التي لا تعرف مواعيد أعيادها إلا بعد وقوعها … تقريبا

في زمن توصّل فيه الذكاء الاصطناعي إلى جعل أم كلثوم تغني بصوتها بعد نصف قرن من وفاتها مُوشّحا لم تُغنّه الستّ ثومة قطّ وكأنها مازالت حيّة ترزق بيننا، مازالت دولتنا المدنية تتعامل مع مواطنيها بمنطق “لو وافق العيد يوم السبت، ستفتح البنوك شبابيكها يوم الجمعة ولو ثبتت رؤية الهلال يوم الخميس يكون العيد يوم الجمعة وفي الحالة الثانية يتعيّن انتظار إعادة فتحها بين العيدين” ؟ وهل يعقل أن يظل المواطن إلى غاية التاسعة ليلا غير عارف بتفاصيل غده، هل سيكون مزدحما بالتزاماته الإدارية والمهنية عموما بدقائقها وتفاصيلها وحساباتها وضغطها النفسي، أو مكتظا بمناسبة نادرة تتطلب استعدادا وترتيبا واستنفارا عائليا فيه السفر وحزم الأمتعة والفرح والبهجة والتبادل ؟ وهل يعقل أن تظل العائلات التي تُبرمج تنقّلات بعيدة لزيارة الأهل وخاصة زيارة الآباء والأمهات، على انتظار شاق إلى غاية بعض السويعات قُبيْل هلال عيد قد يهلّ وقد تتعذّر رؤيته.

وكل هذا الإرباك والانتظارية المجانية يهونان ويُستساغان أمام بلد جار فيه مركز مرموق للاستشعار عن بعد وعلوم الفضاء، يقرر أبناؤه تقسيم القمر إلى شطرين : شطر يُرى في جزء وشطر يُحجب في جزء آخر فيكون العيد عيدين، عيدا في بنغازي والعزيزية يوم الجمعة وعيدا في البيضاء وأجدابيا يوم السبت (أو العكس غير مهمّ، لأننا أصبحنا أضحوكة أمام العالم، فتارة نتحدث عن رؤية تستأنس بالحساب وتارة عن حساب لا يُغفل الرؤية !).  

سألت مواقع الويب المتخصصة إن كان بإمكان علماء فيزياء الفلك توقّع ساعة ظهور “القمر الناشئ” سنة 3000، فكانت الإجابات مُجمعة على أن ذلك ممكن تماما مع إمكانية حدوث بعض التغيّرات الطفيفة غير المؤثّرة جوهريا على صحّة التوقّع ودقّته.

لكن ذلك يعتبر برأيي طبيعيا لكوننا مجتمعات “السياق العالي” (كما يسمّيها المفكر إدوارد هول) حيث ترفض الأشياء قول أسمائها، وحيث يزدحم الخطاب بالتقريبي والنسبي والهلامي وغير الصريح وغير البات من خلال استعمال تعابير عزيزة على بيئتنا من قبيل “يا من عاش” و”يظهرلي” و”برة أكاكة” و”عينك ميزانك” و”ما نتصورش” و”كان تجي تشوف يمكن إيه ويمكن لا”، الخ…  

رابعا :  رمضان، شهر التّخمة والجرعات المفرطة من الرياء والرحمة

تتعرّض أدمغتنا المُتعبة أصلا خلال شهر رمضان إلى عملية تزقيم gavage  (كما يُزقّم الإوز أو البطّ بواسطة الأقماع كما في مصر القديمة ويسمّونه “تزغيط”  أي إجباره يدويا على تناول كميات كبيرة من الطعام، حتى ينمو الكبد بشكل سريع واستغلاله لاحقا في إعداد بعض الأكلات) وذلك من خلال بثّ كل “ما يطلبه ولا يطلبه المستمعون والمشاهدون” في قطيعة تامّة مع ما نحتاجه حقيقة في علاقة برافعات التفكير والجهد والخروج من أسوإ التصنيفات التي بلغناها منذ بُعثنا فوق هذه الأرض التي لم تكن أبدا جدباء كما هي اليوم.

إن  وصفات البرامج أو المسلسلات الناجحة أصبحت في متناول جميع الهوّاة والمبتدئين، إذ يكفي عرض بعض “الطناجر” والبهارات وإعداد غريب الأكلات والوصفات مدعومة بحصص مخصصة لأسئلة تُراوح بين الغباء وإضاعة الوقت من قبيل “هل صحيح أن تناول البايت من الأكل ما يفطّرش؟” أو “هل يعتبر العناق مفسدا للصيام ؟” أو كذلك “هل يجوز مصافحة المرأة الأجنبية خلال شهر الصيام؟” … تتلوها مسلسلات إما تصوّر المجتمع التونسي وكأنه بؤرة سحيقة من العنف وتعاطي المخدرات والخيانة الزوجية أو تُتحفنا بنوع من الهزل الركيك المُفتقر للحدّ الأدنى من تحفيز الذهن وإيقاد الخلايا النائمة والارتقاء بالذائقة العامة.

أكمل القراءة
تعليق واحد

تعليق واحد

    اترك تعليقا

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    جور نار

    العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

    نشرت

    في

    محمد الزمزاري:

    ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

    محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

    ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن الثلاثين سنة، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1991… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

    لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

    هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

    أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

    أكمل القراءة

    جور نار

    ورقات يتيم … الورقة 89

    نشرت

    في

    عبد الكريم قطاطة:

    فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

    عبد الكريم قطاطة

    وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

    وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

    قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

    لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

    وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

    سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

    عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

    وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

    ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

    ـ يتبع ـ

    أكمل القراءة

    جور نار

    ورقات يتيم ..الورقة 88

    نشرت

    في

    عبد الكريم قطاطة:

    المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

    عبد الكريم قطاطة

    وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

    في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

    اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

    اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

    لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

    في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

    عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

    اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

    ـ يتبع ـ

    أكمل القراءة

    صن نار