جور نار

عيد سعيد … وبعض المرح المُفيد

نشرت

في

يطيبُ لي أوّلا -وأنا جادّ في ذلك- أن أهنّئكم بعيد الفطر المُبارك متمنّيا لكم ولذويكم عميم الصحة وعظيم الغبطة والسعادة بين أهلكم وأحبّتكم وتحت خيمة الحنين إلى أعزّاء غادرونا وحملوا معهم قطعا مهمّة من قلوبنا،

<strong>منصف الخميري<strong>

كما يطيبُ لي أن أعود ثانيا بالحديث عن بعض الظواهر الرمضانيّة التي لا نعيشها كتونسيين إلا خلال هذه الفترة الفريدة من كل سنة، غايتي في ذلك اتخاذ بعض المسافة الضرورية إزاء ما يُغرقوننا به دوريّا خلال شهر كامل (أي حوالي ألفي يوم إذا كُتب لنا أن نحيا 70 عاما) من مضامين إعلامية خاصة وخطاب يُعدّونه خصيصا لنا نحنُ دون غيرنا وحيال سلوكات يومية تنمو وتتعزّز لدى الدولة والأفراد تكون بصورة عامة فوق المساءلة، وعيا من الجميع بأن شهر الصيام والفطام هو شهر التسامح والتصالح بين جميع الناس من كل الشرائح.

أوّلا  : المرأة تتحوّل إلى “وكالة لغوْث اللاجئين” خلال شهر رمضان (بالعاميّة، المْرَا تولّي أُونْروا UNRWA)

اعترضتكم بالتأكيد تدوينات أو تعاليق أو أحاديث مشيخيّة ذُكوريّة بطبيعة الحال تحتفي بدور المرأة في المطبخ خلال جزء كبير من يومها الأزرق، وتسعى إلى ردّ الاعتبار إليها ومكافأتها عن مجهودها الخرافي في سبيل إطعام قبيلة بأكملها ينام ثلثا أفرادها إلى غاية الرابعة مساءً… تقول أغلب هذه الاعترافات البَعديّة بالجميل :

شكرا لزوجتي التي أطعمتنا في شهر رمضان،

اللهمّ أطعمها من ثمار الجنّة وبارك لي فيها.

وفي سياق آخر يتحدث كثيرون عن “حق الملح” باعتباره عادة تراثية تتوارثها الأجيال وتُكرّس حسب بعضهم “تكريم المرأة على جهودها خلال شهر رمضان، وتُجسّد عمق العلاقات الأسرية بين الزوج وزوجته”.

إن منطق التكريم والتبجيل المشوّه هذا سئمته نساء العرب والمسلمين لأنه مجرد يافطات موجهة للمغالطة والتعتيم، على حقيقة الاستبداد والغطرسة التي يمارسها الذكور في مجتمع مازالت تُقتل فيه النساء وتُهان وتُسبى، لسبب “حيواني جبان” بسيط هو أن القدرات القتالية لدى النساء لا تسمح غالبا بالانتصار “عضليّا” على رجال يهيجون ويموجون أمام رغيف ينقصه بعض الملح … وهو للتاريخ- منطق مبتذل يُخرجونه من الدّرج في كل مرة لإلجام النساء وإسكاتهنّ، تماما مثل تبرير نظام تعدد الزوجات في القرن الحادي والعشرين، حيث يؤكد على سبيل المثال السيد علي جمعة المفتي السابق للجمهورية المصرية (من 2003 إلى 2013)، “أن الشّرع كرّم المرأة بزواج زوجها من أخريات … مشيرًا إلى أن تعدد الزوجات نظام أشاد به العديد من المفكرين في الغرب، ومنهم شوبنهاور، الذي أكد أن “قوانين الزواج في أوروبا” فاسدة، فقد جعلتنا نقتصر على زوجة واحدة فأفقدتنا نصف حقوقنا”… نعم هكذا… وتصدّقه العامّة.

ثانيا : كل الأشغال وكل الأعمال وكل المواعيد مؤجّلة إلى ما بين العيدَيْن

في خطابنا الموجّه للاستهلاك العلفي المركّز لا نشعر بأي حرج في توليد خطاب تلفيقي كاذب من قبيل “شهر رمضان شهر جهاد وعمل لا شهر نوم وخمول وكسل” … ولكن نسق العمل في الإدارات العمومية التي لا فقط تعمل نصف الوقت ولكنها تشتغل أيضا بأقل من نصف أعوانها ومسؤوليها وبنصف الأخلاق ونصف تقاليد حسن الاستقبال أيضا، وبترديد جُمل زراعية من قبيل “يا من عاش بعد العيد” و “خلّي بعد العيد تتحلّ العينين” و “هانا بديناها توّة نكملوها بعد العيد ان شاء الله” إلخ… كلها مؤشرات على أن شهرا بأسره من أيامنا  لا نحتسبه شهرا ثمينا، كباقي أشهر الحياة، يستمر فيه النبض بشكل طبيعي ويتواصل فيه الإنتاج والتحصيل والبحث والمُراكمة بصفة عادية ككل شعوب الأرض، بقدر ما ننذر جزءً كبيرا منه للحديث عن أحوال السوق وأسعار اللحوم وأنباء تحرير المخالفات ووصفات الأكلات ومداهمة إعداد المرطبات في البيوت والإسطبلات.

ثالثا : الأمة الوحيدة في الكون التي لا تعرف مواعيد أعيادها إلا بعد وقوعها … تقريبا

في زمن توصّل فيه الذكاء الاصطناعي إلى جعل أم كلثوم تغني بصوتها بعد نصف قرن من وفاتها مُوشّحا لم تُغنّه الستّ ثومة قطّ وكأنها مازالت حيّة ترزق بيننا، مازالت دولتنا المدنية تتعامل مع مواطنيها بمنطق “لو وافق العيد يوم السبت، ستفتح البنوك شبابيكها يوم الجمعة ولو ثبتت رؤية الهلال يوم الخميس يكون العيد يوم الجمعة وفي الحالة الثانية يتعيّن انتظار إعادة فتحها بين العيدين” ؟ وهل يعقل أن يظل المواطن إلى غاية التاسعة ليلا غير عارف بتفاصيل غده، هل سيكون مزدحما بالتزاماته الإدارية والمهنية عموما بدقائقها وتفاصيلها وحساباتها وضغطها النفسي، أو مكتظا بمناسبة نادرة تتطلب استعدادا وترتيبا واستنفارا عائليا فيه السفر وحزم الأمتعة والفرح والبهجة والتبادل ؟ وهل يعقل أن تظل العائلات التي تُبرمج تنقّلات بعيدة لزيارة الأهل وخاصة زيارة الآباء والأمهات، على انتظار شاق إلى غاية بعض السويعات قُبيْل هلال عيد قد يهلّ وقد تتعذّر رؤيته.

وكل هذا الإرباك والانتظارية المجانية يهونان ويُستساغان أمام بلد جار فيه مركز مرموق للاستشعار عن بعد وعلوم الفضاء، يقرر أبناؤه تقسيم القمر إلى شطرين : شطر يُرى في جزء وشطر يُحجب في جزء آخر فيكون العيد عيدين، عيدا في بنغازي والعزيزية يوم الجمعة وعيدا في البيضاء وأجدابيا يوم السبت (أو العكس غير مهمّ، لأننا أصبحنا أضحوكة أمام العالم، فتارة نتحدث عن رؤية تستأنس بالحساب وتارة عن حساب لا يُغفل الرؤية !).  

سألت مواقع الويب المتخصصة إن كان بإمكان علماء فيزياء الفلك توقّع ساعة ظهور “القمر الناشئ” سنة 3000، فكانت الإجابات مُجمعة على أن ذلك ممكن تماما مع إمكانية حدوث بعض التغيّرات الطفيفة غير المؤثّرة جوهريا على صحّة التوقّع ودقّته.

لكن ذلك يعتبر برأيي طبيعيا لكوننا مجتمعات “السياق العالي” (كما يسمّيها المفكر إدوارد هول) حيث ترفض الأشياء قول أسمائها، وحيث يزدحم الخطاب بالتقريبي والنسبي والهلامي وغير الصريح وغير البات من خلال استعمال تعابير عزيزة على بيئتنا من قبيل “يا من عاش” و”يظهرلي” و”برة أكاكة” و”عينك ميزانك” و”ما نتصورش” و”كان تجي تشوف يمكن إيه ويمكن لا”، الخ…  

رابعا :  رمضان، شهر التّخمة والجرعات المفرطة من الرياء والرحمة

تتعرّض أدمغتنا المُتعبة أصلا خلال شهر رمضان إلى عملية تزقيم gavage  (كما يُزقّم الإوز أو البطّ بواسطة الأقماع كما في مصر القديمة ويسمّونه “تزغيط”  أي إجباره يدويا على تناول كميات كبيرة من الطعام، حتى ينمو الكبد بشكل سريع واستغلاله لاحقا في إعداد بعض الأكلات) وذلك من خلال بثّ كل “ما يطلبه ولا يطلبه المستمعون والمشاهدون” في قطيعة تامّة مع ما نحتاجه حقيقة في علاقة برافعات التفكير والجهد والخروج من أسوإ التصنيفات التي بلغناها منذ بُعثنا فوق هذه الأرض التي لم تكن أبدا جدباء كما هي اليوم.

إن  وصفات البرامج أو المسلسلات الناجحة أصبحت في متناول جميع الهوّاة والمبتدئين، إذ يكفي عرض بعض “الطناجر” والبهارات وإعداد غريب الأكلات والوصفات مدعومة بحصص مخصصة لأسئلة تُراوح بين الغباء وإضاعة الوقت من قبيل “هل صحيح أن تناول البايت من الأكل ما يفطّرش؟” أو “هل يعتبر العناق مفسدا للصيام ؟” أو كذلك “هل يجوز مصافحة المرأة الأجنبية خلال شهر الصيام؟” … تتلوها مسلسلات إما تصوّر المجتمع التونسي وكأنه بؤرة سحيقة من العنف وتعاطي المخدرات والخيانة الزوجية أو تُتحفنا بنوع من الهزل الركيك المُفتقر للحدّ الأدنى من تحفيز الذهن وإيقاد الخلايا النائمة والارتقاء بالذائقة العامة.

تعليق واحد

صن نار

Exit mobile version