عندما خرج إلينا رئيس حكومة أسبق أحمر العينين منتفخ الأوداج صارخا: “إما تونس و إمّا الفساد و نحن اخترنا تونس” … عندما طلع بدر تونس و ندائها بهذا العنوان التعبوي القارح، اندفعنا كالعاصفة وراءه و أمامه و على يمينه و يساره … سيوفنا مشرعة راياتنا مرفوعة صيحاتنا في العنان: “لبّيك يا زعيم المصلحين، و الويل للفاسدين، و الويل للسارقين، و الويل للمتلاعبين، و الويل الويل يا يُمّة” !
فعلا … فقد أبانت الأحداث عن لعب بنا و بعواطفنا، و كنت مثلا من أغبياء اللحظة بأن سرحتُ في مقال مطوّل من 23 أو 24 حلقة أخذت مني نصف عام و مائة صفحة و درجة أو درجتين في نقص النظر … نباح لم ينقطع عن آفة الفساد و أشكالها و جذورها و حيل مجرميها و وسائل مكافحتها … و لم أكن وحدي لحسن الحظ، فقد وقع في الفخّ ملايين العباد و صدّقنا أن نية الحكومة جادّة و أنها ستحرث البلاد سطحا و عمقا لاقتلاع نبتة الفساد و تحويل أرضنا إلى نسخة من ستوكهولم … و النتيجة بعد أربع سنوات أن الحالة ازدادت كربا و نفس الكروش ازدادت امتلاء و عددا، و تم اختصار كل الحملة في اسمين أو ثلاثة لا يسمنون من جوع … بل كان ذلك رمادا في العيون و تصفية حساب شخصية لا أكثر …
و جاء غيره، معه و بعده و قبله، و بقيت خربة لقمان على خرابها … كلّ يقلب الكرسيّ بمن سبقه و يقول انتهى العهد البائد و جاء عهدكم الجديد السعيد و لن يختلسكم أحد أو يظلمكم بعد اليوم … و مع ذلك يكون موعدنا مع الخيبة مضبوطا كالساعة، و نتحسّر دوما على اللصّ الذي رحل و كان أرحم من “القُطعي” الذي جاء بعده، و هكذا … و لكن أبدا أن حوربت اللصوصية عندنا بنحو كامل، و مرّ على الصراط كل من أخذ و لو قليلا من دم هذا الشعب و عرقه … هل لأنّ من ينهبوننا هم من نفس العائلة؟ لا … هل هم من نفس المدينة؟ لا … هل من نفس الجهة؟ لا … إذن أين المشكل فقد أتعبتنا؟؟
أجيب ببعض الأمثلة الصغيرة … سنة 1964 حدث عندنا ما نسميه الآن بالجلاء الزراعي، و هو طرد للمعمرين الفرنسيين من برّ تونس و تحرير أراضينا من سلطة الأجانب … طبعا لن ندخل في هذر تاريخي حول طبيعة هذا “الطرد” الذي كان في الحقيقة عملية شراء باهظة و ثقيلة استدانت لأجلها البلاد و بقيت تسدد قروضها لمدة جيل أو جيلين … إنما نذكر أن “الاستعمار الغاشم” ترك لنا ضيعات خضراء مزدهرة كمّا و نوعا و تعطي أصنافا من المنتجات ذات الجودة العالمية … يكفي هنا للتذكير بخمور ضيعات تيبار و مرناق و طبربة و بنزرت و “المروج” الحالية التي في أصلها اسم لمعصرة عنب من أرفع ما يكون حسب شهود العصر …
بعد التأميم السعيد و استيلاء ديوان الأراضي الدولية على تركة المعمّرين، و بدل إعادتها إلى أبناء القبائل التونسية الذين صودرت منهم سابقا … بدل هذا، وقع إسناد معظم الضيعات إلى جمهرة المقاومين القدامى، و قليل من هؤلاء من كان خبيرا بالفلاحة العصرية أو مهتمّا بالزراعة أصلا … فكان أن عوملت تلك الأراضي معاملة الغنائم، و تمّ إهمالها ثم قضمها كأيّ ريْع سائب … و زاد على الغمّ إفشال ممنهج لتجربة التعاضد … و النتيجة أننا في سنوات قليلة و بعد أن كنّا نكتفي ذاتيّا و نصدّر … صرنا نتسوّل قوتنا و نعيش من أكياس المساعدات المكتوب على جانبها هذا: “هدية من شعب الولايات المتحدة” و على الوجه الثاني: “ليس للبيع أو المبادلة” … كبار اليوم يتذكرونها، و ربما هناك من افترشها أو لبس من قماشها … أمّا المعمّرون المطرودون، فقد أعدناهم متوسّلين لهم بعد مدة قليلة، تحت يافطة الاستثمار الخارجي و قانون 72 …
مثال آخر … في ثمانينات القرن الماضي و في إطار حمّى تصفية القطاع العام التي بدأت في الانتشار و ها أن البعض يلحّ على استكمال بقية هلاهلها … في تلك الفترة، قررت وزارة الثقافة التخلّي عن مهمّة نشر الكتاب آملة في أن ينشط مكانها قطاع خاص شغوف بالقراءة و الأدب … فأغلقت عدة مؤسسات منها الشركة التونسية للتوزيع، و لم يكف هذا بل هجمت بالجرّافات على بناية الشركة بشارع قرطاج، و على مطبعتها بباب سعدون … و نتج عن ذلك أن القطاع الخاص لم يرَ في ذلك العملية سوى فرصة للمضاربة العقارية، فتحوّل مصنع باب سعدون إلى صالة أفراح، و أصبحت مكتبة شارع قرطاج المهيبة خلاء للقمامة طمع فيه تجّار بومنديل …
مثال ثالث … سنة 1994 و تحضيرا لتنظيم كأس إفريقيا للأمم التي احتضنتها تونس، كان من بين الأشغال تجديد ملعب المنزه … و يشمل التجديد في ما يشمل تلك السبورة اللامعة التي اشتهرت مع ملعبنا الأشهر … و عندما جيء بالسبورة الجديدة المتطوّرة، كانت القديمة ما تزال صالحة للعمل … و بدل تفكيكها برفق ثم إعادة تركيبها في أي ملعب من ملاعب الجمهورية، وقع الهجوم عليها بالفؤوس و المطارق حتى تناثرت أشلاء … و النتيجة أنه لم تسلم بعدها حتى السبورة الجديدة، بل قل الملعب كله و هو موصد منذ زمن قد لا تُعرف له نهاية … و حاله الآن و كامل محيطه صارت كأطلال ببرقة ثهمد …
لن نزيد أكثر عن ملعب رادس الذي كان متوقعا في 2001 لاستقبال 80 ألف متفرج فإذا بالميزانية “تشرب” فجأة و نضطر إلى النزول إلى 60 ألفا … و لا عن وضع باقي منشآتنا الرياضية و تكالب البعض عليها اليوم داعين إلى بيعها عقارات للبناء … و لا عن المافيات العقارية التي لم يسلم منها حتى القصر الجمهوري بصقانس … و لا عن بنيتنا التحتية المهترئة و التي قديمها أقلّ سوءا من جديدها …و لا عن مشروع المترو الذي كان مبرمجا تحت الأرض فإذا به يكتفي بما فوقها و يزيد في الزحمة بدل حلّها … و لا عن مشروع “بوخاطر” الذي هرب منّا بجلده و ما زال هاربا … و لا عن طوفان الفساد الذي غمرنا بعد 2011 و تحوّل فيه بؤساء سابقون إلى أصحاب نعمة و ثروة … و لا عن آلاف الملفات التي فُتحت نتفة منها ثم طُويت و طُمرت إلى الأبد على ما يبدو رغم كل الدعاوى …
و لا تقل لي بعد هذا إن كل هؤلاء الجحافل من فاسدي الأمس و قبل الأمس و البارحة و هذا الصباح … نزلت بهم أمطار ديسمبر أو رياح الشرش، أو ألقت بهم علينا طائرة عابرة كجنود المظلاّت …