تابعت مثل غيري الحادثتين المؤسفتين اللتين تعرض لهما الفنان لمين النهدي في سوسة و قرطاج … حالتا نفور جماهيري تحصلان أول مرة مع نجم الكوميديا الأهمّ في الخمسين سنة الأخيرة … الأولى تمّ تعليلها برداءة الميكروات، و الثانية بتأخّر الوقت على من يشتغلون باكرا !
ترك الأقدمون عدة أمثال و أقوال عن مشهد كهذا، و يتراوح ذلك بين “رب عذر أقبح من ذنب” و “فقه بُرد أغيظ من هجو بشار” … إذ أن تجهيزات الصوت وغيرها تُختبر من فريق المسرحية قبل العرض بساعات و حتى بأيام و هناك من يجلب السونو و الإضاءة معه فلا لعب في المسألة … كما أن “كاتب” المسرحية و مخرجها اختصاصه الأصلي سينما و من يقول سينما يقول صورة و صوتا، إذن؟ … بين قوسين هناك أكثر من مصطلح في ما ذكرنا يتطلب نقطة تعجب أو استفهام أو معقفين، و لكننا تفادينا ذلك حتى لا نثقل على النص … والكلام لم يبدأ بعد.
هذا واحد … اثنان: اتّهام الجمهور بالغباء و الإسفاف أو التآمر و التسرّع في اتخاذ موقف من العمل قبل انتهائه، هذه ذريعة عمرها اليوم 27 قرنا و أكثر … يعني منذ أول فشل مسرحي من أيام الإغريق، بل قل منذ نشأت الأعمال الضعيفة في الفنون و الآداب عامة، و نشأ لها المبررون و المكابرون والهاربون إلى الأمام … استخدم هذه العلكة شعراء على روائيين على موسيقيين على رسامين على نحّاتين على سينمائيين … و من حسن الحظ أن غيرهم ممن تعثّر راجع نفسه و أعاد النظر في سقطات عمله وانطلق من جديد نحو الأفضل …
لا … الجمهور ليس غبيا و لا أعمى و لا متآمرا و لا عاشقا للرداءة، يمكن أن يكون ذلك لأشخاص منفردين ولكن أن يهبّ جمع ما ضدّ أو مع إنتاج مّا، و من دون اتفاق مسبق، فالعيب يكون في الوجه لا في المرآة … الجمهور الذي قاطع مسرحية النهدي الأخيرة، هو نفسه الذي سانده و حمله كالزهرة الوليدة على راحتيه منذ “الكريطة” و “أهل الهوى” و “القافزون” و “فرّ فرّ” و “في بلاد الهاو هاو” و “الفرجة” … تبنّى الجمهور هذه الموهبة المغمورة و ترك تباعا كل الأسماء الكبيرة وقتها، و شكّل دروعا بشرية رأيناها في المسرح البلدي وفي قرطاج و في الزهراء و في صفاقس و سوسة و مدنين و توزر و بنزرت و باجة و الكاف العالي طبعا … بل رأيناها تحاصر قصر العدالة أول الثمانينات عند محاكمة لمين على مسرحية الفرجة … في مشهد لم يتكرر مع نجوم السياسة و الثقافة و النضال النقابي …
هؤلاء “الأغبياء” حضروا على الدوام حين كان “النقاد” و “المثقفون” و “الحداثيون” يشمتون في الرجل ويتّهمونه بالتهريج و جمهوره بالتخلف الذهني … و كانوا عماده الأوحد و لو راح إلى أقصى نقطة في العالم بها تونسيون، و عرب أيضا … و استمر ذلك خمسة عقود من الزمن، في ملحمة فنية جماهيرية لم توجد عندنا من قبل و يصعب أن تستعاد … فهل الجمهور بأجياله المتعاقبة، غبيّ حين كان مع النهدي … و غبيّ أيضا حين لم يعجبه أحد أعماله؟
الحقيقة أن هذا الفنان الأسطورة، لم يعرف كيف يحافظ على كنزه الوحيد و أي كنز !… النهدي موهوب و لا نظير له حين يقف على الخشبة … إذا كانت الكوميديا العربية في نصف القرن الأخير عرفت نجوما لا يُطاوَلون، فإنهم برأيي لا يخرجون عن ثلاثة أسماء، ثلاثة فقط: دريد لحام (سوريا)، عادل إمام (مصر) و لمين النهدي من تونس … و لكن موهبة النجم ليست للأسف كل شيء، بل تكتمل بحسن اختيار النصوص، و بقدرة اتصالية متفوقة، و بتصرف جيّد في المسار الفني … و هنا، لا مقارنة بين النهدي و ندّيه العربيين الآخريْن …
قد يفوقهما موهبة ـ هذا أكيد ـ و لكنه ألحق بنفسه أضرارا جُلّى بتصريحاته المتهوّرة الكثيرة … و دخوله في مهاترات لا ضرورة لها … و تعابير فيها الأنا المتضخمة أحيانا، و تورّط عنيد و ممجوج في تمجيد ابنيه و تكبير حجمهما الصغير جدّا أحيانا أخرى … كل هذا على حساب مسيرة شخصية كم تعب الرجل في بنائها، و تعب معه من آمنوا به و دفعوه إلى أعلى، و على رأسهم الرائعة باستمرار، الفنانة سعاد محاسن …
النهدي أيضا حصر طموحه الفني في جمع المال … حبّذا لو ينجح الفنان و يكسب من فنه فهذا مشروع ومطلوب، و لكن خزينة التاريخ لا تقلّ أهمية عن خزينة البنك، و الذاكرة تحتفظ بفتوحات شارلي شابلن وتنسى عشرات الأسماء التي نافسته و ربما غنمت مالا أكثر منه … كما أنه ما المانع من أن نقدم فنا محققا للمداخيل و مقنِعا في ذات الوقت؟ …
كذلك أو نتيجة له، اتجه بطلنا منذ مدة غير قصيرة نحو الأعمال ذات الممثل الواحد، و المصروف الواحد … أقول “أعمال” و لا أقول مسرحيات لأن أعمدة الفن الرابع تكاد تغيب تماما عما أمسينا نراه منه … لا ممثلون، و لا ديكور، و خاصة لا نص … أي و الله … و من السخف اعتبار تلك الثرثرات الواردة في “المكي و زكية” و ما لحقها، و المخيّطة بعدد من النكت و المقاطع من مسرحيات لمين القديمة (الكريطة، فر فر، أهل الهوى) … من السخف اعتبارها نصّا أو مسرحا بل هي إلى “المَقلَب” أقرب …
ثم ما علاقة السيد الذي انبرى كاتبا مسرحيا بعد أن كان مخرج سينما … فهل رأينا عادل إمام يطلب نصوصه من يوسف شاهين؟ أو دريد لحام يقدم مسرحيات من تأليف خلدون المالح أو نجدت أنزور؟ هذا ليس إبداعا بل تبديع، بل بدعة تونسية بحتة … كل يسمح لنفسه بأن يفعل أي شيء و كما اتفق … قوة عادل إمام في نصوص كتبها مؤلفون متخصصون (علي سالم، سمير عبد العظيم، يوسف معاطي …) لا يعرفون سوى الكتابة و يفهمون المسرح و الدراما التلفزية على أصولهما … من جهته، بنى دريد لجام مجده الفني على تآليف كاتب طائل الموهبة كمحمد الماغوط … فأين نحن من الخزمة؟
ختاما … كنت تأسّفت في البداية على ما حدث لفنان الشعب و الناطق باسم جهاتنا الداخلية و أعماق شعبنا … لمين الطاقة التي لا تنفد و المحبة التي لا نخفيها … و أنا و إن كنت مؤمنا بأنه ما زال لديه الكثير من أوقات إمتاعنا متّعه الله بالصحة و طول العمر، فإني لا أراه محتاجا لعطف أحد أو تحصين من أحد … فالنقد جزء من الفن مهما كان قاسيا، و الجمهور من حقه أن يحاسبك “كاش” لأنه يدفع ثمن فرجته كاش …
و لعل لمثل هذه الرجة أثرا حميدا في نقد الذات و تعديل المسار.