في الخارطة الجامعية التونسية … أهل السياسة هرْبوا بالقطعيّة !
نشرت
قبل سنتين
في
توضيح قبل البدء : ليست الغاية من طرح مسألة الخارطة الجامعية اليوم إثارة أي نوع من النعرات أو الدعوة المُبتذلة إلى إلغاء كل ما تحقّق وتمكين كل جهة من بناء الجامعات التي تُريد، ولكن أردتُها ملامسة أولى لمسألة استراتيجية وفي غاية التعقيد علّها تمكّننا يوما من تجويد ما هو قائم وتدارك بعض الخيارات التاريخية الخاطئة.
***
بمناسبة هذه العودة الجامعية الجديدة التي أتمنّاها موفّقة للجميع ومتوّجة بأرقى النجاحات والتفوّقات، بودّي التطرّق إلى مسألة تهمّ منظومة التعليم العالي في تونس وذلك من زاوية ما يُسمّى بالخارطة الجامعية. لكن غالبا ما يتمّ تناول هذا المسألة على معنى انتشار عائلات الاختصاص وكيفية توزيع الطلبة ذكورا وإناثا على مختلف المؤسّسات الجامعيّة ومدى تطور مستوى كثافتهم العددية من سنة إلى أخرى، وليس من زاوية نصيب مختلف الجهات والأقاليم من المسالك التكوينية الجامعية والخلفيات السياسية والتاريخية التي انبنت عليها هذه التوزيعيّة ومدى تكافؤ الفرص بين مختلف جهات البلاد في هذا المجال.
شهد التعليم العالي في تونس تكثيفا غير مسبوق خلال ثمانينات القرن الماضي من حيث عدد الطلبة المسجلين بالجامعة وعدد المؤسسات الجامعية والمسالك التكوينية التي تحتضنها كل مؤسسة وغصّت الأقطاب الجامعية التقليدية بالطلبة والكليات والمدارس والمعاهد العليا خاصة في تونس الكبرى والساحل وبدرجة أقل في مدينة صفاقس.
وكان قرار بعث مؤسسات جامعية بالجهات الداخلية يهدف إلى تحقيق غايتين اثنتين : التنفيس عن العاصمة بصورة خاصة التي أصبحت تعاني من اكتظاظ طلابي كبير سكنيا ودراسيا ومروريا ومعيشيا الخ… مع ما يُتيحه ذلك أيضا من “تحجيم” (بمعنى التقليص في الحجم) للحركة الطلابية التونسية التي عاشت أوْج عنفوانها خلال السّنوات السبعين والثمانين، خاصة مع وجود روافد أخرى لا تقلّ قدرة على إزعاج السلطة السياسية القائمة آنذاك مثل الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان والحركة السينمائية والمسرحية الصاعدة… والتي أصبحت تشكل في مجملها حراكا واسعا مُعاديا للنظام وجب التقليص من نفوذه.
أما الغاية الثانية فكانت سياسية هي الأخرى، إذ تمّ خاصة في مرحلة حكم بن علي، لمّا كان الصراع على أشدّه بين الكتل المؤثرة والأجنحة المختلفة صلب أجهزة الحزب الحاكم بصورة خاصة متخذا تارة رداء الجهويّة وجلباب العروشية تارة أخرى … تركيز “جامعات كيفما اتفق” في كل ولاية وفي كل معتمدية إن لزم الأمر إسكاتا للنعرات وترضية للأنوات… في قطيعة تامة مع مُعطى المواصفات الدّنيا لتركيز الكليات والمدارس العليا من حيث توفّر إطار التدريس وهياكل البحث والمحيط الثقافي والأرضية المادية واللوجستية المواتية…
نصيب الزعيم في المنستير لوحدها : أضعاف ما تمتّعت به كل الجهات الداخلية مُجتمعة
في العقود الأولى لانبعاث الجامعة التونسية، كان لابد من إرضاء جهة المنستير تحديدا لكونها أنجبت “يا مخلّص البلاد، مُحال ننسى فضلك من بالي“، وذلك من خلال خلق قطب جامعي نوعي كبير أصبح يبلغ عدد مؤسّساته اليوم 15 مؤسسة (5 منها بالمهدية وواحدة بالمكنين) تستقطب أفضل المعدّلات في الباكالوريا كل سنة، وذلك بالنظر إلى “نوعية” المسالك التي تمّ تركيزها هناك (الطب والصيدلة وطب الأسنان واختصاصات شبه طبية ومهن الموضة وكلية علوم ومعهد تحضيري للدراسات الهندسية ومعهد عالي للإعلامية ومعهد عالي للبيوتكنولوجيا…)… نسيج جامعي على درجة عالية من الجاذبية وسط مدينة جميلة مُطلّة على البحر لم تترك السياسة شيئا لم تفعله من أجل تمتيعها بأفضل بنية تحتية فيها الطرقات والمترو والمنتجعات السياحية والمناطق الصناعية الخ…
ليس هذا فحسب، بل وعلى بعد 20 كلم تقريبا، تتأسّس مدينة جامعية مجاورة بــ 16 مؤسسة جامعية منها هي الأخرى كلية للطب ومعهد عال لعلوم التمريض ومدرسة عليا لعلوم وتقنيات الصحة (أي بكثافة منقطعة النظير على مستوى الدراسات الطبية وشبه الطبية في رقعة جغرافية ضيقة جدا من المساحة الجملية للبلاد التونسية !). ولكن جامعة سوسة لا تكتفي بهذا القدر من المسالك الجامعية المُغرية والجذابة والمستحوذة على انتباه الدّارسين والمدرّسين مثل : العلوم التطبيقية والتكنولوجيا والنقل واللوجستيك والدراسات التجارية العليا والحقوق والإعلامية وتقنيات الاتصال والمعهد الأعلى للتصرف الخ…
أمّا حمّام سوسة (وهي تقريبا حزء لا يتجزّأ من مدينة سوسة) التي أنجبت هي الأخرى من أمسك بأعلى هرم السلطة، فقد فازت بمؤسّستين جامعيّتين هما المعهد العالي للإعلامية وتقنيات الاتصال (بـثلاث إجازات في الإعلامية والاتصالات) والمدرسة العليا للعلوم والتكنولوجيا (بـــ 7 إجازات : كيمياء، فيزياء، طاقة، رياضيات، مرحلة تحضيرية علمية، إلكترونيك الخ…).
وعليه من حقّنا أن نتساءل : أية عدالة هذه التي يكون يموجبها أكثر من نصف الجامعة التونسية ممركزا في 20 كلم2 (على 000 132 كلم2)؟!!
أما بالنسبة إلى تونس العاصمة، فيمكن القول بأنها لم تسرق مجدها الجامعي وأنهمن الطبيعي أن يكون بها 4 جامعات كبرى (المنار وتونس وقرطاج ومنوبة) بمؤسسات عريقة متخصصة في مجالات اشتهرت بها كبرى الجامعات في العالم مثل الدراسات القانونية والدراسات الانسانية والاجتماعية والعلوم الطبية وشبه الطبية والعلوم الصحيحة والاختصاصات التكنولوجية الخ…
لكن العديد من المؤسسات الجامعية التي تمّ بعثها في الجهات الداخلية لم تكن خاضعة لمقاييس موضوعية وخصوصيات جهوية وإقليمية تُمكنها من التطور عبر السنوات والإسهام في تطور مؤشرات النمو بتلك الجهات. فما سُمّي على سبيل المثال بالدراسات التطبيقية في الإنسانيات في بعض المعتمديات أو الفنون والحرف أو كذلك بعض المؤسسات “التكنولوجية” في المناطق النائية التي يفوق عدد الموظفين والعملة فيها عدد الطلبة الذين تمّ توجيههم نحوها وباشروا فيها دراستهم الجامعية بصورة فعلية… ليست إلا واجهات برّاقة تُخفي وجها بارزا في أزمة التعليم العالي في تونس وغياب التوازن بين مختلف الأقطاب الجامعية واحتداد الفوارق على مستوى جودة التكوين وتشغيلية الخرّيجين.
لذلك السبب بالذات، لا نجد أثرا البتّة للطلبة الجدد الناجحين بملاحظات حسن وحسن جدا في المؤسسات الجامعية غير المنتمية لتونس وتونس المنار وقرطاج والمنستير وسوسة وصفاقس. وهو ما سينعكس على نسبة الانقطاع المبكّر أولا (يعتقد الكثيرون منا أن ظاهرة الانقطاع لا تنسحب إلا على التعليم الأساسي والتعليم الثانوي) وعدم تكافؤ مستوى المتخرجين ثانيا وبالتالي عدم تساوي حظوظ الاندماج في سوق الشغل خاصة بعد انسداد أبواب الانتداب في الوظيفة العمومية.
أية آفاق لمراجعة الخارطة الجامعية الحالية ؟
في سبيل تحقيق حدّ أدنى من التوازن بين الجهات والأقاليم وبعث بؤر جامعية للتميّز تساهم في تكوين نُخب على مستوى عال من الكفاءة وصلابة التكوين وتساهم أيضا في النهوض بالتنمية وإضفاء شيء من الألق والحيوية على حياة باهتة داخل جهاتنا المنسيّة، باتت الحاجة مؤكدة إلى مراجعة جوهرية وجريئة للخارطة الجامعية تأخذ بعين الاعتبار :
___ إقرار التكامل والانسجام مع منظومة التكوين المهني (خاصة في مستوى مؤهل التقني سامي، حيث لا أفرّق شخصيا بين إجازة في التعليم العالي تُسند بعد 3 سنوات دراسة جامعية في اختصاص تكنولوجي ما، وبين شهادة تقني سام يُسندها التكوين المهني بعد 3 سنوات أو سنتين ونصف في نفس ذلك الاختصاص التكنولوجي) وذلك في الجهات الداخلية حيث يتقلّص عدد الطلبة بشكل ملحوظ من خلال إيجاد صيغ مرنة وذكية لتبادل الخبرات وتقاسم الموارد والالتصاق بحاجيات الجهة.
___ دعم التخصّص لكونه سبيلا مثاليّا للارتقاء بجودة التكوين وإقدار الخرّيجين على منافسة نظرائهم في سوق عالمية للعمل مفتوحة أمام خريجي كل جامعات المعمورة. ولدينا في تونس نواتات جامعية للتخصص يمكن دعمها وتطويرها بدلا من خلق اختصاصات شبيهة في مؤسسات أخرى للتضييق عليها فنخسر الأولى ولا نربح الثانية. فبرج السدرية على سبيل المثال يمكن أن تتخصص في تكنولوجيات البيئة والهندسة الطاقية، وشط مريم في العلوم الفلاحية، وقابس في علوم وتقنيات المياه، وقفصة في علوم الجيوماتيك، والكاف في الفلاحة والمستغلات الفلاحية الخ…
___ توزيع اختصاصات التميّز (التي يُقبل عليها الطلبة حتى وإن كانت واقعة في آخر الدنيا) بشكل عادل بين جميع الجهات والأقاليم وذلك على النحو التقريبي التالي :
الطلب الخارجي الكبير على الكفاءات التونسية في مجالات الطب والتمريض والاختصاصات شبه الطبية (التوليد والعلاج الطبيعي وأمراض الشيخوخة والرعاية الصحية للأطفال…) وازدياد الطلب على الخدمات الصحية خارج المؤسسات الاستشفائية، في قطاع الطفولة وقطاع السياحة ووحدات إيواء كبار السنّ… يجعلان من بعث مؤسسات جامعية متخصصة في هذه المجالات وبالجهات الداخلية خيارا ذا مردودية عالية على المدى القريب والمتوسط
التركيز داخل الأقطاب الجامعية القائمة بالجهات الداخلية (وبالشراكة مع كبرى الشركات العالمية) على الاختصاصات ذات العلاقة بالتكنولوجيات الحديثة مثل الشبكات والاتصالات والذكاء الاصطناعي ومهن الملتميديا والإنترنت والإعلامية الصناعية وتكنولوجيا البيئة ومهن التحول والنجاعة الطاقية ومهن إعداد المضامين الرقمية … وهي مهن مضمونة التشغيلية وطنيا وعالميا.