تابعنا على

جور نار

في اليوم العالمي للمدرّسات والمدرّسين

تلاميذنا بحاجة ماسّة إلى مُربٍّ يُحفّزهم ويُهيّج دافعيّتهم ولا يدعُ أحدا منهم على قارعة الطريق

نشرت

في

أحتفل على طريقتي باليوم العالمي للمدرّسين، وذلك بأن أفرد هذه الورقة، لا للإشادة بفضل المربّين والتنويه بعطائهم وهم جديرون تماما بذلك، بل لإسداء بعض الإنارات بصفتي مربّيا قديما (أو هكذا أدّعي) قصد حفْز هِمم جُلاّس المقاعد الدراسية المُقبلين على مستقبل لا يعلمونه، وخاصة كل أولئك المحرومين من أحزمة قوية تُسندُ ظهورهم الغضّة ووسائد هوائية تقيهم مخاطر الاصطدامات وهم يعبُرون طرقات الحياة المدرسية والجامعية المزدحمة والمتشعّبة.  

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

جميع الناشئين دون استثناء يحتاجون إلى رعاية وعناية ومرافقة، لكن هذه الشّريحة العمريّة تنمو بداخلها فئة كبيرة العدد يُعوزها أبٌ خطابه اليومي مُزدانٌ بالمصطلحات الفريدة (في كل اللغات) والاستعمالات السياقية البديعة، وتفتقدُ إلى أمّ تسمّي المهن والأكلات والبدلات وأجناس القطط والكلاب دون حساب، وهي فئة لا يتسنّى لها معاشرة أعمام يسافرون وأجداد يقرؤون وأخوال يجوبون العالم فيزدادون فطنة ونباهة.

على جميع المربّين أن ينتبهوا جيدا (وبشكل فيه حِرفية وتعاطف) إلى هؤلاء المهدّدين بالتّيه والجنوح، وأن يحوّلوا المدرسة إلى حاضنة حقيقية مختصة تُعوّض ما يُفسده المحيط وتسدّ الثغرات المفتوحة صلب العائلات ذات المناعة المتدنّية.

أتوجّه إلى هؤلاء “الماشين على الحِبال المشدودة فوق فوهات كل أنواع البراكين الحارقة” والذين عرفت الكثيرين منهم … نجا بعضهم وتاه البعض الآخر، أتوجّه إليهم بعُصارة ما يختلجُ داخل أغلب المربين ويتمنّونه بقوّة للجمهور الجالس أمامهم، فأضمّ صوتي إلى صوتهم لأقول لهم :

–  إذا كان أبناء الميسورين مُطالَبين ببذل مجهود كبير من أجل النجاح والتفوّق، فأنت – يا ابن الفئات الذّاوية- مُطالبٌ ببذل أضعاف هذا المجهود لأن السّباقات الأخيرة لا يتمّ تصميمها على نحو فارقيّ لكلّ فيها حسب مستوى مكتسباته، وإنما تُخاط بصفة ممنهجة لا تراعي الفروقات والتباعدات، وكأنّ كل التلاميذ كتلة متجانسة تلقّت نفس التكوين ولها نفس الاستعدادات.

–  اعلم أن خارطة حياة “الموعودين برغد العيش” مرسومة نسبيا بوضوح خوارزمي منذ البداية (تحضيري جيد + أساسي متميز ثم مؤسسة نموذجية + تناول مكثف للمنشطات = باكالوريا عالية المعدل تُفضي إلى أجود ما لدينا من اختصاصات في الجامعات العمومية أو التعليم العالي الخاص والدراسة بالخارج لو تعذّر ذلك)… أما أنت فإن إبحارك محكوم بالرؤية (في ظل غياب الــجي بي أس) وأهدافك تحددها النتائج (عكس ما يجب أن يكون، أي أنك تُحرز النتائج الضرورية لإنجاز أهداف لا تتحقّق إلا بفضل تلك النتائج)….وكأنّ مصيرك لا سلطة لك عليه، متروك للصدفة والعشوائي وغير المتوقّع وتقلّبات الطريق ومفاجآت المسار.

– أدرك أن الأولياء المنتسبين إلى الطبقات الاجتماعية الوسطى مثل المربّين والجامعيين والأطباء والموظفين والتجار السّالكة أحوالهم… يستثمرون جهودا وإمكانيات خرافية من أجل ضمان نجاح منظوريهم وإحراز أفضل النتائج والوصول بهم إلى أرقى المراتب والدرجات المهنية والحياتية بصورة عامة. ولكن هؤلاء في المقابل، لا ينتظرون مساعدات مادية من أبنائهم يوم يشتغلون حتى وإن كانت الوضعية المادية للعائلة بصورة عامة تساوي أو تفوق بقليل درجة الاكتفاء. أما العائلات التي تشحّ في جيوبها الموارد، فسوف تكون بهجتها بهجتين وفرحتها فرحتين يوم ينجح الأبناء ويتألقون لأنها ستُفاخر بطبيبة صاعدة أو مهندس واعد وستسعد لسعادة أبنائها، ولكنها في ذات الوقت ستنعكس على مستوى رفاهها ولو قليلا الوضعية الجديدة لهؤلاء الصغار الذين كبروا ووطئت أقدامهم تراب اليابسة. فكن رافعة لمن لا رافعة أخرى له غيرك أنت أيها الشّارد الذي تكتكه التيك توك وسبَى عقله الفايسبوك.

– كن استباقيّا و ثق من الآن أنهم سيُقلّبونك غدا على كل واجهاتك الظاهرة منها والباطنة، سيُقيّمون حضورك وأنت تطلب يد ابنتهم، وسيُحدّدون من أنت من خلال شهائدك التي راكمتها في مسيرتك وطبيعة العمل الذي تمارسه وشبكة العلاقات التي تعيش ضمنها…ومدى قدرتك على أن تكون واثقا من نفسك في غير غرور ومتسامحا ومرنا في غير تحلّل ورخاوة. سيُخضعونك إلى سلسلة من الاختبارات التي تفوق في صرامتها روائز ولوج البنتاغون. واعلم كذلك أنك ستمتنع بصورة تلقائية عن ارتياد فضاءات معيّنة مثل النزل والمقاهي وقاعات الترفيه الفخمة لأنها تُقيم حواجز اجتماعية غير مرئية في مداخلها وبين معابرها.

– كن مقاتلا واصمد في وجه الانبعاثات السّامّة المتأتّية أحيانا من برامج متهرّمة أو طرق تدريس متكلّسة ودافع عن حظوظك كاملة، وكن واثقا من أن لا أحد غدا – مهما علا شأنه- بقادر على الاستنقاص من شأنك أو مراوغتك أو توجيه الإساءة إليك حتى وإن كانت ضمنية ومخفيّة بشكل محكم في تفاصيل الكلام… عندما يكون ذهنك مبنياّ بشكل متوازن وجيبُك “مستورا” وقلبك معمورا.

– ليس من حقّك مطلقا أن تظلّ تلهث كل ساعة وكل ثانية وراء متعة حينيّة وهلامية زائلة تُحملق فيها بعينين زائغتين وأعصاب مشدودة على شاشة افتراضية خاوية ومخادعة، لتنسى تماما أن لك خزّانا معرفيا موحشا بفراغه عليك ملؤه، وأن لك أبًا لو وهبتَهُ أنستغرامات العالم كلّه لما قبِل أن يرتاح ساعة واحدة لأن لك طلبات ولإخوتك صولات وجولات في المطالبة بالماركات والبراندات. ولكونه أيضا يُدرك أكثر منك أيها الكائن الرقمي المحلّق عاليا في سماء العيش المغشوش، أن الرغيف لا يؤكل إلا طازجا.

ووالدك يعرف بشكل أفضل منك كذلك أن مقاعد السّعادة في قطار الحياة غير محجوزة بشكل مسبق (كما يحلو للمتقاعسين أن يبرّروا انتظاراتهم الأبدية على قارعة سكّة الحديد)، بل تظل شاغرة لتلين بحنوّ وتلطّف أمام أوّل المُثابرين والمُكابدين الذين اقتنعوا مبكّرا أنهم متساوون تماما مع غيرهم من حيث “إمكانيات الذكاء والإبداع الكامنة”، لكن قوّة الدفع الذاتية تختلف من شريحة إلى أخرى ويتعيّن عليك أنت أن تعوض عن ذلك ببذل مجهود مضاعف لا غير.

– أمّا والدتك :

فلا تخذلها و لا تفعل بها أكثر ممّا فعلته بها الحياة، وردّ لها بعضا من اكتوائها اليومي بنيران المواقد وعميق حرصها على نظافة المراقد وعدم إطباق جفنيها حتى يحلّ ركب حضرتك ليلا. ليس لديها الإمكانيات الذاتية لتؤطرك مدرسيا وتُراجعَ معك تمارينك وواجباتك، وليس لديها من سعة الرزق لترسلك إلى نقاط الشحن الاصطناعي، ولكنها تضعك أمامها وتُلزمك باستعراض ما درسته صوتيّا، ولا يهم إن لم تفهم تماما المقاصد والمعاني، لتتأكد من خلال ما يُشبه عمليات “المسح بالرنين المغناطيسي” وهي تتأمل ملامحك وتتفرّس حماستك ومدى غبطتك وقلقك وتسرّعك من عدمه في إنهاء الحصة… لتتأكد أن الأمل مازال قائما في الفوز يوما بـ “جَرْية عْمُرها” !

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

عندما تختلط البيروقراطية بـ”الخلفية المسبقة”

نشرت

في

محمد الزمزاري:

باعتباري اطارا سابقا بقطاع البريد، فقد آمنت دوما بأنه كان وأرجو ذلك لحدود اليوم مدرسة عتيدة تحظى بمكانة مرموقة بفضل دقة خدماتها و حتى تضحيات اعوانها من أجل اسداء خدمة ممتازة للمواطن.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

كل ذلك رغم الازدحام الذي تشهده مكاتب البريد عموما وتنوع تلك الخدمات المالية منها، بالاضافة إلى المراسلات بكل اصنافها… وإذ احيي اطارات واعوان البريد الزملاء القدامى فانه حرصا على الصورة الناصعة للبريديين، لا يمكنني المرور مر الكرام على بعض النقاط السوداء التي صدمتني كمواطن راغب في قضاء خدمة او تسوية غلطة “لا ناقة له فيها ولا جمل” ! … و ربما تتطلب هذه النقطة السوداء التي عشتها خلال يوم الأربعاء الماضي، تنقية قطاع البريد مما علق به مثله مثل عديد القطاعات العمومية وربما الخاصة أيضا للوصول بنا إلى تحقيق إدارة وطنية في خدمة المواطن دون أي ارتخاء او تعطيل او بيروقراطية. ….

أعود لاسرد انه خلال الساعة العاشرة من صباح يوم الأربعاء الماضي تقدمت إلى مكتب بريد سليمان 1 (الواقع قرب محطة النقل) لمتابعة مصير رسالة مضمونة الوصول مع الإعلام بالاستلام، كنت أرسلتها منذ. مدة ولم يتم اعلامي بالقبول من عدمه كما اني لم اتلق اي اعلام ( avis) على عنواني… ولدى استفساري بالنافذة تمت دعوتي لمقابلة رئيس المكتب وهذا يعد عاديا جدا ..قمت بالنقر على باب المكتب ثم انتظرت … واعدت الكرة مرتين في مساحة وقت تصل تقريبا إلى 20 دقيقة دون أية خلفية مادمت أدرك متطلبات العمل البريدي التي تشمل احيانا قبول احتساب رزم الأموال او اي أداء عمل اخر …

لفت انتباهي على الجانب الأيسر المحاذي لباب المكتب قلم تم ربطه بإسلاك حبل (سباولي) ازرق …وهذا أيضا لم. يتجاوز الا ابتسامة .. اطل السيد رئيس المكتب طالبا مني مزيد الانتظار ..وهذا أيضا شيء عادي رغم اني شاهدته وراء نوافذ المكتب للقيام بالتمام او توجيه مهني… اخيرا استقبلني السيد رئيس المكتب بطريقة جافة… لم أكن بحاجة لأي ترحيب قدر رغبتي في حل مشكلة رسالتي المضمونة الوصول التي لم أعلم عن مصيرها …

وفي واقع الأمر كنت لا انتظر حلا من رئيس هذا المكتب الذي فكر قليلا ثم اردف: (موزع البريد متغيب منذ يومين ولا نعرف أي سبب… عد غدا لعله يكون هنا ليرى مآل الرسالة… لكن عليك بتقديم طلب كتابي)… تبسمت قليلا وانا أدرك جيدا ان رئيس المكتب إما انه لا يعرف اني لست مطالبا بتحرير مطلب، وان بكل مكاتب البريد مطبوعات لمثل هذه الحالة (imprimé de réclamation) … وهذا خطير… او انه يعرف ذلك جيدا و يطالبني بالرجوع موكلا كل الشكوى للموزع “الغائب”… وقد يعيد لي الاسطوانة خلال الغد في صورة تواصل غياب موزع البريد… وهذا أخطر بكثير فقد جمع مزيجا من البيروقراطية وربما سوء القصد ..ولا ادل على ذلك اني من الغد عوض العودة لنفس مدير هذا المكتب تقدمت إلى مركز بريد اخر لتتم الاستجابة لي بسهولة …

مفارقة بين عقلية بيروقراطية و حرص على اداء الواجب ؟؟ هنا تطرح الاسئلة الحادة والرغبة الجامحة في تحسين الخدمات و تنقية الادارة من كل الشوائب العالقة ..

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 83

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

يبدو انّ اولاد عمّنا الطلاين حفظوا ممّا حفظوه عنّا بعض الامثال الشعبية ومنها (اللي يعمل طاحونة، وفي رواية اخرى كوشة، يعمللها دندان)…

عبد الكريم قطاطة

الطلاين يعلمون جيّدا انّ علاقتنا باللغة الايطالية هي علاقة تمظهر لا غير ..جلّنا يعمل فيها بطل ويردد تشاو او غراتسي ..شفويا فقط ولا يعرف حتّى كيف تُكتب الواحدة منها …وانا كنت واحدا من هؤلاء المتمظهرين واندهشتُ جدّا يوم تعلّمت اللغة الايطالية، بل وضحكت على نفسي زاجرا إياها على حبّ التمظهر … الراي اونو اعدّت العدّة لتجاوز جهلنا للّغة الايطالية … وتكفّلت القنصلية الايطالية بتونس العاصمة باخضاعنا لتدريب على لغتها ولمدّة شهرين …نعم وبمعدّل 7 ساعات يوميا و5 ايام في الاسبوع … وتكفلت مؤسسة التلفزة التونسية بمصاريف اقامتنا خاصة ونحن في جلّنا من اذاعة صفاقس …

في تلك المدّة المخصّصة لتعلّم اللغة زاد يقين اغلبنا بانّنا سنهاجر لبلاد الفنّ والجمال .. كنّا تحت رعاية مدرّسة ومدرّس ..المدرّسة السيدة كيارا كانت ايطالية لحما ودما ..امّا المدرّس الذي نسيت اسمه وطبيعيّ ان انسى اسمه، كان جدّيا جدّا الى درجة التجمّد …وهو بالنسبة لي يستحيل ان يكون ايطاليّ الجينات ..ممكن الماني هولندي ..ذلك الذي لا يحرّك فيّ كمدرّس الشعور بالمتعة .. بارد جامد 5555 درجة تحت الصفر … على عكس السيّدة كيارا ..هي تلك التي تغنّي وهي تتكلم ..هي تلك التي تُضيء في الواحد منّا شموس الحياة وهي تبتسم… وحتى غضبها من مشاكساتنا لها لا يعدو ان يكون من نوع (يززّي يا مفيد) واعني هنا زميلنا الكاميرامان مفيد الزواغي ..

كنت اراه انذاك (بليد وماسط) لكن عندما تواترت الايام وعرفته اكثر احببته واحببت بلادته ..وهو يعلم ذلك جيّدا ..ربما لم تنتبهوا لكلمة السيّدة كيارا وهي تقول يززّي … هذه لسيت كلمة ايطالية بل تونسية لحما ودما وماركة مسجّلة .. السيدة كيارا متزوجة بتونسي من قفصة ومنطقي ان تكون عارفة بلغتنا .. وحتى في البداية عندما نتهامس ببعض العبارات التونسية اللي (فيها وعليها) كانت تنظر الينا بنظرات عاتبة …انا طيلة دراستي كنت مفتونا بتعلّم اللغات الحيّة ..ووجدت في موسيقى اللغة الايطالية نوعا من السمفونيات التي تهزّني للسحاب تماهيا معها … والسيدة كيارا كانت على درجة من الذكاء … هي شعلة متحرّكة ….انها تلمس في كلّ واحد منّا مدى استيعابه للدروس ..وهنا لابدّ من الإشارة إلى بانّنا كنا كاغلبية من يستمع للايطاليين نعتقد انّ اللغة الايطالية سهلة للغاية… يكفي ان ناخذ كلمة بالفرنسية وننهيها بـ A او O حتى تصبح ايطالية لكن اكتشفنا بعد الدراسة انّ اللغة الايطالية من اصعب اللغات الحيّة في قواعد النحو والتصريف …(جوجمة كبيرة )… وللامانة ايضا السيّدة كيارا كان لها ودّ خاصّ لعبدالكريم ..ومردّ ذلك انّ عائلة زوجها من المستمعين الشغوفين بعبدالكريم في اذاعة صفاقس ..

هذا الامر اسرّته لي يوما ما كيارا بقولها وبعربية مهروشة .. (دار راجلي يهبوك برشة) … طبعا تقصد يحبّوك … وحرف الحاء هو من اصعب الحروف نطقا لدى الاوروبيين عموما .. وربما من اجل ذلك وفي ختام الدروس وقبل الامتحان النهائي للحصول على شهادة تمكّن الناجحين فقط من السفر والقيام بتربّص تقني في الراي اونو ..ربما لذلك السبب وقبل يوم من الامتحان وعند انتهاء الدرس طلبت منّي كيارا ان لا اغادر لامر هامّ …خرج الجميع وجاءتني كيارا بتردّد ولكن بحزم وحبّ ..قالت لي: سي عبدالكريم (واقرؤوا الحرف “هـ” كلما استعملته عوضا عن حرف الحاء) ماشي نقلك هاجة ويلزم هتّى هدّ ما يسمع بيها ..انا هبيتكم الكلّ في الشهرين اللذين قضيناهما معا وقلبي يوجعني لو ايّ فرد منكم لا يسافر الى ايطاليا … وانا مطمئنة لمستواكم في استيعاب اللغة باستثناء اسمين …خايفة عليهم .. فرجاء وبطريقتك وبشكل غير مباشر هسسهم انّ الامتهان سيكون في الدرسين الفلانيين …

اندهشت جدا واغرورقت عيناي بالدمع .. وحاولت ان اتجاوز واخفي ذلك بقولي لها: توة ولاو ثلاثة، حتى انا وليت نعرف موضوع الامتحان … نظرت إليّ وقالت بكلّ وثوق: انت ما نخافش عليك لاباس لاباس .. وكان الامر كذلك واتصلت بالزميلين واشعرتهما بـ”تكهناتي” في مواضيع الامتحان ..ويوم الامتحان اندهشا من حدسي هذا ..ولم اشأ اخبارهما بما حدث بيني وبين كيارا لحدّ يوم الناس هذا … رايت في صمتي عدولا عن تنغيص فرحتهما انذاك واستنقاصا منهما بعد ذلك .. اليست افضل الصدقات ان لا يكون فيها منّ…؟؟… ونجح الجميع وبعضنا وكنت منهم بملاحظة اوتّيمو .. هذه طبعا بالايطالي موش بالفائز من التسجيل سنة ثانية ايطالية بمعهد اللغات الحيّة بالعاصمة …بورقيبة سكول …

كنت وددت لو تمكنت من ذلك ولكن لا تسالوا الناس بل اسألوا الظروف .. ظروفي وقتها يستحيل معها ان اقيم بالعاصمة لمواصلة الدراسة ببورقيبة سكول ..اقولها بكلّ حُرقة واسف لانّي عاشق لغات باستثناء اللغة الالمانية …مانيش على نفس الموجة انا ويّاها… احسّ بها لغة متعجرفة متغشرشة متهوغششة . ما تسألونيش اشنوة معناها الكلمات اللي قافيتها شششة ..والله لا نعرف …رغم عشقي الكبير للالمان ..الارادة .. العمل .. الانضباط ..

وحان شهر ماي للرحيل ..المحطّة الاولى كانت بتورينو .. مدينة اليوفي ..لابدّ وقبل الدخول في التفاصيل من التنصيص على انّ مصاريف اقامتنا سكنا و(ميكول) ومصروفا يوميا تكفلت به الراي اونو ..وترانا كلّ بداية اسبوع نهرع جميعا للمكلّف بالخزانة المالية كي نستلم نصيبنا الاسبوعي من تلك المنحة… وكانت صدقا الخير والبركة ..السفر وكما تعلمون هو من يكشف لك حقيقة الاخرين ..وقتها نكتشف اللي حدّو حدّ روحو ونكتشف القرناط (اي البخيل) ونكتشف الزبراط ونكتشف خفيف الظلّ وثقيله ..خاصة عندما تقتسم واياهم شهرين كاملين الاول بتورينو وهو مخصّص للجانب النظري والثاني بروما وهو للجانب التطبيقي ..لن اوغل في الجانب المعرفي طوال الشهرين فقط اكتفي بالقول انّ دنيا التلفزيون في ايطاليا وتحديدا في الراي اونو ومشتقاتها دنيا رهيبة ..هم يعملون كخلايا النحل ولكن وهو الاهمّ هم مبدعون خلاقون وفي منتهى حذق مهني على درجة عالية من الكفاءة .

في احد الايام كان لنا لقاء بمعدّ ديكور انبهرنا بما اعدّه كمناظر لبرنامج ما ..وعندما سالناه عن ماهية تلك القطع الجميلة التي صنع منها ديكوره كانت الدهشة والانبهار الحقيقي ..انه صنع مناظره من علب الياغرت الفارغة … شيء يمخوج والله … اذن ليس غريبا ان تتبوّأ ايطاليا المكانة العالمية الاولى في جودة التلفزيون… من جانبنا كتونسيين وجدنا كلّ الاحاطة تأطيرا وعلاقات انسانية .. وخاصّة المامهم وبسرعة بقدرات كل واحد منّا .. كنت مثلا الناطق الرسمي باسم المجموعة تقديرا من زملائي لشخصي وتقديرا من الطرف الايطالي لتمكّني من اللغة الايطالية .. وعندما عرفت المجموعة الايطالية بهذا الامر اصبحت تتعامل معي بكلّ ثقة وتفهّم وتقدير .. ووصل الامر ببعض المكوّنين عندما ارغب في عدم حضور حصة ما واطلب الاذن منهم، ودون تردد يوافقون… خاصة انّ شهري ماي وجوان لتلك السنة تزامنت مع دورة رولان غاروس الفرنسية في كرة التنس ..فكنت يوميا انا وزميلي الحبيب المسلماني نشتري ما لذّ وطاب لاهواء كلّ منّا وننصبو الطاولة في بيتي لمتابعة دورة التنس . ويلتحق البقية ولن تنتهي الجلسة الا في أعقاب الليالي .وآشي فسدق وآشي فراز … وآشي بنان وآشي حاجات ..

دون تفاصيل في آشي حاجات احتراما لخصوصيات الاخرين .. لكن اعدكم بالحديث حول بعض تلك الخصوصيات ..وهو يصير فول مدمّس من غير كمّون ؟؟ اعدّو العدّة اذن للمدمّس وما شابهه في الورقة القادمة …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 82

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

قبل ان امرّ لسنة 88 لابدّ من توجيه التحيّة لكلّ من آزرني في فترة ابعادي عن المصدح سنة 85 وحتى عودتي سنة 87 ولمدّة 18 عشر شهرا ..

عبد الكريم قطاطة

الشكر اوّلا لمستمعيّ … نعم واقسم بالله انّه وبمبادرة منهم فوجئت بهم يتّفقون على تكوين خلايا في كافة مدن الجمهورية هدفها الامضاء في عريضة تطالب ببرنامجهم، كوكتيل من البريد الى الاثير .. وبالمنشّط عبدالكريم… وما اثلج صدري في نصّ تلك العريضة كلمة “برنامجنا” التي وردت في نصّ العريضة… عندما يتبنّى المستمع ايّ برنامج ويصفه بانّه برنامجه فذلك دليل على انّه وصل الى مرحلة الانتماء ..عرفت بعد ان ارسلوا اليّ نسخة من العريضة انّ هذه الخلايا كانت تعمل كخلايا نحل في المعاهد والكلّيات والحقول والاسواق والادارات ومع ربات البيوت ..وهذا ايضا ما عملت عليه وعلى تحقيقه في رؤيتي للعمل الاذاعي ..

كانت ومازالت لديّ قناعة بانّ البرنامج الجيّد هو الذي يلتصق بكلّ الفئات عمريّا وتعليميا اجتماعيا وحتّى سياسيا رغم اختلافي مع بعض الايديولوجيات… نعم من حقهم ان يتواجدوا معي في برامجي وطبعا باستثناء اعداء الوطن ..هذوكة اللعب معاهم امس واليوم وغدا، لاااااااااااااع …دون ذلك التوجّه وتلك الرؤية يبقى برنامجا نخبويا يعتني بفئة خاصة ..وبالنسبة لي هو اعلام يمارس العادة السرية في العمل الاذاعي… طبعا مع احترامي للبرامج المتخصّصة… البرامج الطبّية مثلا… وحتى هذه عليها ان تنزل من عليائها الاكاديمي الى اللغة المبسّطة التي يفهمها الجميع دون ذلك ستبقى تماما كروشيتة الطبيب للصيدلي ..ولست افهم لحدّ الان لماذا سي الطبيب ما يكتبش كيف العباد الكلّ ويبتعد عن اللغة الصينية او اليابانية او الهونولولية ..

تلك الخلايا في عملها الدؤوب لتجميع امضاءات العريضة حققت رقما قياسيا لم يحدث ان تحقق قبل ذلك في تاريخ الاعلام ..انها استطاعت تجميع 20 الف امضاء للمطالبة بعودة برنامجهم وعودتي …تحيّة الشكر الثانية اتوجّه بها الى العديد من الزملاء وفي الاذاعات الثلاث (تونس، صفاقس، المنستير) الذين تعاطفوا معي رغم انّ اغلبهم في السرّ وليس في العلن ..وهنا _ وهذا علمته بعد عودتي الى المصدح يوم 12 جانفي 87… هنا لابدّ من توجيه تحيّة خاصّة للسيّد المنصف الهرقلي مدير اذاعة المنستير في تلك الفترة الذي حاول التدخّل في شأن ايقافي مع الزميل المرحوم محمد عبدالكافي لارجاع المياه الى مجاريها ..وعندما فشل في ذلك قال السيّد الهرقلي للسيد عبدالكافي: (ما يعزّش بيك خويا محمد ..اذا ما وصلتش لحلّ مع عبدالكريم راني ماشي نفكهولك وناخذو معايا في اذاعة المنستير )..اخيرا تحيّة لكلّ الاقلام الصحفية التي تبنّت قضيّة ايقافي… وللامانة كانت لدى العديد منهم قناعة بانّو اسم عبدالكريم يبيع الجريدة…

بقية سنة 87 كانت عادية في احداثها ..كنّا مستبشرين بتوجّهات بن علي… كانت هناك في ميدان الاعلام نوافذ للحرّيات ..وككلّ عمليّة تغيير تظهر اسماء وتختفي اخرى …هذه الاخيرة لمدّة لا تطول لتعود باكثر ضرب على كلّ آلات الايقاع(اي مات الملك عاش الملك وينصر من صبح)…لكن وحسب ما عاينته كان هنالك ارتياح عامّ لما يحدث على الخارطة السياسية للبلاد ..

ظاهرة اخرى تبرز في كلّ عملية تغيير: هرولة الجميع… الصادقين والمنافقين… لتقديم اجندات جديدة كلّ في اختصاصه .. وهنا اعني مقترحات عمليّة لارضاء الحاكم بامره وحتى يسجّل اسمه في قائمة الملأ الذي يشتغل للبلاط ..اعلاميا بدأ التفكير في تحديث العمل التلفزي واخراجه من قوالب الرداءة والروتين ..لذلك ارتأى اصحاب هذا القطاع وعلى رأسهم عبد الوهاب عبد الله، بلدوزر الاعلام في فترة بن علي ..ارتأى هؤلاء ارساء تعاون وثيق مع مؤسسة الراي اونو .. وهي القناة التي كنا نهرع اليها كلّما اطلّ بيبو باودو و خااااااصّة رفائيلا كارا …وبكلّ امانة حتى لا نستنقص من اسماء البعض، كنا ايضا نتشوّق في التلفزة التونسية لمنوّعات نجيب الخطاب الذي افنى حياته في العمل المضني جدا من اجل التجديد المستمر… ورسّم اسمه في سجلّ التلفزة التونسية كافضل منشط عرفته عبر تاريخها… ولم يستطع ولحدّ الان ايّ زميل معاصر له او جاء بعده، ان يزحزح اسمه من على رأس القائمة ..

لنعد الى ايطاليا ..البلد الجميل باهله ..كنت ومازلت اقول عنهم (هاكوما اولاد عمنا) نعم لنا تاريخ مشترك منذ عهد قرطاج ..وكانت لنا معهم حروب وجولات… انهزمنا في بعضها وانتصرنا في بعضها الاخر ..اي نعم، التاريخ يقول اننا استعمرنا نحن التونسيين أيضا، البعض من المناطق الايطالية ..وحتى لهجتنا الدارجة فيها من الكلمات الايطالية الكثير (سيكورو .. صبارص ..تكوردو .. باستا ..) ولغتهم هم ايضا فيها الكثير من كلماتنا التونسية ..(اي نعم تحسابونا شوية احنا التوانسة ؟؟ احنا بحويجاتنا عبر كلّ التاريخ) … اصحاب القرار في الميدان التلفزي امضوا اتفاقية شراكة بين التلفزة التونسية ونظيرتها الراي اونو ..اتفاقية الشراكة تقتضي من التلفزة التونسية توسيع ارسال الراي اونو في مناطق عديدة من تونس (شفتو ما يجي شيء بلاش؟!)… مقابل تكفّل الراي اونو بارساء استوديو تلفزي بصفاقس ويبدو انّ الاستوديو يكون في صفاقس احدى اخطاء الحاكمين بامور تونس… اما ما تقلقوش برشة سيكون مصيره مشابها في نهايته لمشروع الميترو والمدينة الرياضية…

و لكن وقبل كلّ شيء كان لابدّ من استباق ذلك بالتكفّل بتدريب للتقنيين لتعلّم المناهج الحديثة في اختصاصات عديدة ..لكن كانت هنالك معضلة اللغة ..نحن وفي جلّنا لا تتجاوز معرفتنا للغة الطليان بعض الكلمات … بونجورنو، داكوردو،تشاو .. وهزّ ايدك من المرق ..لذلك ودائما في مجال اتفاقية الشراكة كانت الحلول بالنسبة للراي اونو جاهزة ..وهذا امر طبيعي ..اللي حاجتو باش تنشر صوتو ومن خلالو ثقافتو يعملك في الجنّة .. تي اما ذراع …؟.. كيلومترات …وتحددت قائمة التقنيين المشمولين بهذا التدريب ..القليل منهم من تونس (خاصة تقنيّو الارسال التلفزي) والبقية من صفاقس .. تسألون وعل طريقة عادل امام ..اسمي موجود ؟ نعم موجود ..للامانة لم اعرف اطلاقا وجود اسمي انذاك… كان نوعا من الترضية بعد ايقافي عن العمل مرّتين في عهد الزعيم بورقيبة رغم اني استبعد ذلك لانّي ايضا اُبعدت عن المصدح 7 سنوات في عهد بن علي ..

المنطق يقول انّ دراستي بالمعهد الوطني للعلوم السمعية البصرية بباريس وحصولي على ديبلوم درجة 3 في تلك العلوم باختصاص اخراج هو ما كان وراء وجود اسمي في القائمة التي ستتدرب في الراي اونو ..ايه واش عملنا اذن في معضلة اللغة الايطالية التي نجهلها جميعا ؟؟ ..تعرفوها عبارة ضربان لوغة ..اي اكاهو عاد، ساتوقف عن ضربان اللغة واواصل معكم بقية ضربان اللوغة في الورقة 83 وشكرا في اليوم العالمي للشكر على وسع بالكم معايا ..اما بكلّ امانة وقتاش يعملونا اليوم العالمي للفلوس؟؟ اذا ثمّة اعتصام في هالميضوع، انا موجود موجود موجود …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار