جور نار

في ذكرى رحيل الشاعر أولاد أحمد … لحْظتان بهيجتان عِشتُهما معَهُ

نشرت

في

” ها أنا

أتصفّح الدستور.

باسم الشعب.

أقرأ.

ثم أضحك.

ثم أعذر للعصابة ما تخطّط في الظلام

مخافة من يوم غد  !  ”                                                                                              (أولاد أحمد)

يُصادف غدا 05 أفريل الذكرى السّادسة لوفاة فقيد البيت الشعري التونسي محمد الصغيّر اولاد احمد  الذي أعتبرُهُ شخصيا – مع الشاعر أبو القاسم الشابي من قبلِه- نِتاجا تونسيا خالصا،

<strong>منصف الخميري<strong>

بمعنى أنه عندما يُقرأ شعرهما في العراق أو في الأردن أو في أي مكان عربي آخر، ينتبه المستمع مباشرة إلى تونسيّتهما وانخراطهما المباشر ودون كثير تهويمات شعرية مجرّدة في محاربة المستعمرين والدجّالين والتخلف والمتخلّفين. (وهي خاصيّة لا تُنقِصُ شيئا من قيمة التجارب الشعرية التونسية الأخرى ورياديّتها).

اللحظة الأولى : حضرت فعاليات ملتقى ابن رشيق للنقد الأدبي بالقيروان أواخر أفريل 1993 بدعوة لطيفة من الشاعرة المتميّزة جميلة الماجري، وكان أول لقاء حقيقي لي مع المرحوم أولاد أحمد… وقفتُ خلاله على مكانته بين الشعراء والأدباء والنقّاد ولمست إنسانيّته اللامتناهية، فكتبت فيه آنذاك النص التالي.

أولاد أحمد العائد لتوّه من ألمانيا كان محلّ إعجاب وتهافت الجميع. قرأ وصيّته الأخيرة لأنه أضحى على يقين أنه ميّت لا محالة في النصف الأخير من شهر “غُشت” خلال هذه الصائفة. ولأنه يعاني من ملاحقات محيطه النكديّة راح يستمر في مسيرة التحدي وليّ عُنق السّائد حتى النهاية بشكل يتيح لنفسه تصميم مراسم موته بنفسه وتقرير كيفية التعامل مع غيابه وكأنه من المُشيّعين لجنازته الخاصة متمتّعا بحقّه في الحضور وحماية تاريخه من الشماتة والتأبينات الكاذبة. لكننا وبنفس روح العنف الذي يكتنف هذا السيناريو الشعري، سنمنع شاعرنا من ممارسة حقة في الموت (لأنه لم يختر مجيئه إلى الحياة ولا إلى عالم الشعر) طالما مازال حُلمُه ببيْت شعر لم يتحقق وصدره مازالت تعتمل داخله بعض البراكين الواعدة.

ثمّ أنسيتَ يا محمد الصغير أنك لست حيّا بما فيه الكفاية كي تموت ؟ !

أضيفُ أنني اكتشفتُ في هذا الرجل بُعدًا لم أكن أدركه، ومردّ ذلك أنّ لدى عامة الناس انطباع سيّئ حول أمزجة الشعراء وطِباعهم حتى ليُخيّل اليك أن أفضل طريقة لحماية بريق صورة المبدع من التلاشي هي أن لا تسعى الى اقتحامه خارج أروقة القصيدة وأن لا تحاول مُعايشته على هامش ما يُتيحه موضوع الإبداع من التقاء. في القيروان رأيتُ قلبَ أولاد أحمد على كفِّهِ ضخما ونابضا ونقيّا، لأنني لم أكن شاعرا أو أديبا أو ناقدا حتى يخُصّني بكل تلك العناية والحرارة والترحاب. لماذا أقول هذا ؟ ربّما لأن هذا “الاكتشاف” يعبّر على نحو مَا أنني لست غير نبيه تماما ما دُمتُ أتوصّل إلى سبر  بعض أغوار الناس من خلال بعض التفاصيل الصغيرة، فقد أعلنتُ ذات يوم أمام صديق مناوئ أن أولاد احمد شاعر صادق جدا … كالأطفال يبكي ويلهو ويُناور ويحلو له أن يقول بعض البذاءات اللذيذة أحيانا.

يقول محمد الصغير “إن علاقة الكاتب الجماهيري بالقارئ لا يمكن أن تكون إلا علاقة حب أو كراهية… نريد محبّين جيّدين وأعداء جيدين” … فأعلن إذن أنني من المُحبّين لهذا الشاعر ومن المطالبين بتدريس شيء من نصوصه النثرية والشعرية في مدارسنا وكليّاتنا … ومن المدافعين أيضا عن حقه المشروع في التّمايز حتى لا نتعامل معه نحن القراء كإسكافي أو تاجر توابل مُطالب بالاستجابة لأهوائنا وذائقتنا على حساب ذاتيّته.

اللحظة الثانية : لمّا كان أولاد أحمد يُشرف على القسم الثقافي بمجلة الملاحظ أرسلت إليه بورقة حول البِزنس الثقافي السائد آنذاك، من حسن حظي، أعجبه النص وأذِن بنشره في المجلة المذكورة بتاريخ  20 جويلية 1993 ولكنه اختار له عنوان البُرنس الثقافي حاذفا النقطة من على حرف الرّاء، مبرّرا فِعلته بأن مصطلح البُرنس يعبّر بشكل أفضل عن واقع المُتاجرة بالألقاب الثقافية من مصطلح “البزنس” الدّخيل… والبرنوس –حسب قوله- لباس بربري وبريّ أصيل يقي من البرد والحرارة في نفس الوقت وقادر على الصمود مدى الحياة على أكتاف لابسيه.

 (وهذا جزء من البرنس).

 هذا زمن ثقافة التعليب و”المزيّن من برّة آش احوالو من داخل”.

يكفي في زمننا الغاشم هذا أن يكون التعليب جيدا والصورة مُركّبة بشكل مُحكم والاسم مُحيلا على جملة من القيم النّافذة مجتمعيا (مثل البرَكة والأصالة والإحسان والكرم…) حتى تتشكّل للبضاعة المعيّنة مكانات مناسبة في لاوعي المستهلك على شكل أدراج الدكاكين ورفوف المغازات، بصرف النظر عن مدى الحروق وعمق القروح التي يسببها الاقبال على ما بداخل العُلبِ والقراطيس.

… لكي تصنع لنفسك اسما ثقافيا، لابد من معابر وأروقة ودعاية وأضواء ورياء وكثير من تمارين رياضة الجمباز… وحتى يكون الأديب أديبا والشاعر شاعرا والفنان فنانا…يتعين عل المترشح لحيازة هذه الصفات أن يطرق كل الأبواب ويعالج كل النوافذ بحثا عمّن يُبيّض صورته ويمنحه ألقابا خيالية وعناوين مزورة تبوّئه لاعتلاء أرائك باذخة يبدو وهو مُتكوّر فيها من فرط هشاشته وكأنه “هرّ ” (أي سيد باللغة الألمانية) أعياه التسكع ليلا في حانات المدينة المقفرة.

وهاتان حالتان اقترفت فيهما عمليات سطو موصوفة خلال الشهر الحالي فقط (جويلية 1993) :

الحالة الأولى : كان الصحفي في جريدة يومية يتحدث عن فتاة تعمل كمنشطة بقناة تلفزية ومُسوِّدة لبعض الفقرات في بعض الصحف ليتوقف عند “امكانياتها العريضة ومؤهلاتها المتميزة”، ثم في تعرضه لسيرتها الذاتية يقول “منشطتنا الحلوة والنشيطة صحفية من حيث تكوينها…” والحال أنها لم تتجاوز عتبة الباكالوريا . واعتقادي أن كاتب المقال يعرف جيدا هذه الحقيقة لكنه أثناء تحبيره لمقاله المشبوه فضّل الخضوع إلى سلطة تكوّرات وانسيابات مّا، بدلا من الخضوع الى سلطة الموضوعية ونبذ التزييف.

الحالة الثانية : بمناسبة الذكرى كذا لتأسيس جريدة عمالية التأمت تظاهرة ثقافية وتنشيطية وجّه المشرفون عليها الدعوة الى عديد الوجوه الأدبية والشعرية حتى تساهم بنتاجاتها وتثري فعاليات هذا الحدث، ومن بين المدعوين اسمٌ وقع التعريف به على أنه “شاعر وباحث وناقد” والحال أن المكتبة الثقافية لا تعرف له أشعارا ولا بحوثا ولا أعمالا نقدية تذكر. فكل انتاجه لا يتجاوز مجموعة شعرية بسيطة وبعض المقالات السريعة الحريصة دوما على عدم إزعاج السلطان. اللّهم الا إذا كان القصد من البحث هو السّعي بمفهومه البدوي البدائي وراء كرسي أو هالة ما، والقصد من الناقد ذاك الذي يجمع النقود بأيسر الجهود.

رحم الله شاعرنا الكبير محمد الصغير أولاد أحمد الذي ترك إرثا ثقيلا سيُخلّده ويُؤبّده في قلوب التونسيين لأجيال وأجيال أخرى.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version