جور نار

في فنون الإفحام والإلجام …

… مع مُختارات من الإفحامات البليغة

نشرت

في

إن أجمل تعريف وجدتُه لفن الإفحام والبلاغة في الردّ l’art de la répartie  هو الذي تُعبّر عنه قصّة رجل الدولة الفرنسي بيار منديس فرانس مع أحد معارضيه المنتمين إلى اليمين المتطرف في المجلس الوطني الفرنسي خمسينات القرن الماضي، لمّا صرخ في وجهه هذا الأخير “اخرس أيها المختون”  (لأن منديس فرانس من عائلة يهودية تمارس خِتان الأطفال الذكور). فتماسك PMF كما كانوا ينادونه وردّ عليه  : “من المؤكد أن زوجتك تعاني كثيرا من الثرثرة وإفشاء الأسرار” !

<strong>منصف الخميري<strong>

تدُرّ علينا اللغات الأجنبية أحيانا ببعض المصطلحات والتعابير التي لا نجد لها مرادفا مماثلا ودقيقا في لغتنا العربية من قبيل l’empathie  أو la résilience في اللغة الفرنسية… أو كذلك – وهذا موضوع ورقتي الأسبوعية هذه المرة- مصطلح la répartie الذي يقابله حسب رأيي في العربية الإفحام أو إلجام الخصوم عن الكلام.

وأفحم الخصمَ في العربية أي أسكته بالحجّة وأعجزه عن الجواب. 

كم حدث لنا جميعا أن قلنا في مناسبات عديدة بعد انتهاء الحوار مع شخص ما أو مجموعة من الأشخاص خاصة في لحظات التوتّر العالي (مثل الحوارات التلفزية أو النقاشات الفكرية مع الخصوم الخ…)  “تبّا، كان عليّ أن أردّ عليه بهذا الشكل” ! والتعبير عن مثل هذا “الحرمان” مردّه أننا لم نكتسب القدرة التلقائية والآلية على الردّ المناسب والمُفحم في وضعيات تواصليّة نُستهدف فيها.

___اعتباران أساسيان يدفعانني إلى الحديث في فنون الردّ :

قتامة المشهد الإعلامي التلفزي والافتراضي الذي أصبح يُنعت بــ “التلفزة في بوبالة” وساحةً للمبارزة والتصادم مثله مثل مدرّجات الملاعب الرياضية حيث ينتشر الكلام البذيء بل وتُغدق عليه الأموال كي يُلحّن ويُغنّى حتى تَفحم الأصوات وتنقطع الأنفاس من شدّة التأثّر. فحديث القُمامة الذي نسمعه على منابر تلفزاتنا لا يختلف في شيء عن المقذوفات المتنوعة نحو الملاعب والركل الفاحش فوقها.

والسبب الثاني هو العقدة الشخصية التي كبُرت معي منذ تعرّفت إلى متعلّمين أجانب عن قرب وكان يدور بيننا حديث يومي حول شتى المواضيع والمسائل العادي منها والمتعلق بمهنة التدريس ومناخاته، ومن بين الاختلافات “القاعديّة” البيّنة التي كنت أقف عليها في كل مرة (عند ترك مسافة نقدية بيني وبينهم) هي سرعة البديهة لديهم ومهارة “البينغ بونغ الكلامي” التي يوظفونها في التواصل بشكل أفضل منّا بكثير وكذلك القدرة على الإحراج والإسكات في غير تجريح أو وقاحة.

ولكن ما يجب الانتباه إليه أن “فن الإفحام” l’art de la répartie ليس “موهبة ربّانية” كما يظن البعض أو معطى وراثيا، بل هو مهارة تُكتسب وتُنمّى وتُتاح لجميع الناس شرط أن نتدرّب عليها بانتظام ونُبدي استعدادا جديّا للاشتغال على ذواتنا وأن نُدرك أن الإبداع الشخصي وثراء اللغة والسيولة الشفوية والقدرة على المواجهة، هي خصال جوهرية في مسار التعلّم هذا وهذا التدريب (الذي يشبه الى حدّ كبير ممارسة الارتجال المسرحي).

يقول الدّارسون في هذا المجال إن “الثقة في النفس ومحاولة فهم طبيعة المشاعر التي تلفّنا في لحظة معيّنة وإطلاق العنان لخيالنا والإصغاء بشكل جيد لما يقوله الآخر وفرز الوضعيات التواصلية التي تستدعي “ردّا بديعا” وعدم محاكاة الآخر في أسلوبه وضرورة أن تسترعي الاهتمام قبل الردّ. مع الحرص الشديد على الردّ بشكل مرح وغير متشنج…” هي مكوّنات أساسية لضمان ردود مُفحِمة لا نندم على اقترافها في ما بعد.

إن افضل الردود “التي تُصيب في مقتل” هي تلك التي يمارسها الشخص وهو هادئ تماما وواثق جدا من نفسه مستغلا القوة العظيمة الكامنة في تجنّب استهلال الحديث بكلمة “لا” و “غير صحيح” و”هذا هراء وخور” … وأخيرا لا بد أن تجرؤ على القول. (وهي موازنة دقيقة بين القول واللاقول ومراوحة مُتقنة بين القبول الذكي ولو صوريّا برأي الآخر والإسكات الناعم له…).

وعليه، قد يكون من المُفيد لأطفالنا تدريبهم بشكل مبكّر على آداب المحاورة وحسن الإصغاء والتسلّح بقدر كبير من اللغة والثقافة العامة والثقة بالنفس وكبح جِماح الانفعال والغضب أثناء استهدافنا من قبل الآخر … وهو تمرين يومي حول طاولة الإفطار وأثناء السهر العائلي وخلال مشاهدة شيء ما بصفة جماعية أو مُعايشة خلاف أو شِجار في الطريق العام.

“السبّان والعيران والتحليب وتلقيش السماء والكشاكش الطالعة والهيجان والميجان والغسلان والتشليل وتسميع وسخ الوذنين وتمسح بيه القاعة وتتحلّف فيه وتتهدّد عليه ويفتّقو من بعضو ويكوّر بيه…” كلها عناوين لأدرينالين غير مسيطر عليه ومشاعر بدائية جيّاشة غير مروّضة ودليل على أننا نعاني من نقص حادّ في المُليّنات الذهنية مثل الثقافة والقراءة والسينما والمحاورات الهادئة وتجريب التلاسن مع المحيط والاطلاع على التجارب الإنسانية المختلفة وتصفّح حياة الكِبار الذين مرّوا من على هذه الأرض.

أنا حزين لكون لغة الڨبي ڨبي والشنقر ونقر وأمورو في الجبن وتسكرة التران في مكتوبو (بمعنى نازح) في شوارعنا أضحت عنوانا للـــ “فحولة” و “القفزة” وتجد صدى واسعا لها في وسائل الإعلام العمومية والخاصة فتُرسّخها وتُشرعنها وتزيد من انتشارها بدلا من أن تكون قاطرة للتدريب على لغة أرقى وفنون كلام أكثر علوّا وتوظيف فنون المعمورة وثقافاتها وكتبها وإبداعاتها في تهذيب لسان طفولتنا وشبابنا.

___من أمتع الإفحامات وأرقاها :

شاهدت ذات مرة مخرجا سينمائيا فرنسيا خلال حوار تلفزي يردّ على ناقد سينمائي شاهد فِلمَهُ واستعمل ألفاظا مُقزّمة في حق الشريط مشكّكا في قيمته الفنية ووجاهة الأفكار الواردة فيه…تركه صاحب الشريط يُكمل انتقاداته المُدمّرة حتى النهاية. حينها طلب منه بكل هدوء “هل أنهيت حديثك ؟” أجابه “ليس تماما ولكن سأكتفي بهذا القدر”.

اتجه نحوه المخرج وقال له : “وأنا سأكتفي بأن أجيبك بشكل بسيط من خلال حكاية الغراب والبلبل التي يعرفها الجميع” :

كان هناك في الغاب غراب مغرور ومفتون بصوته إلى درجة كان يسمح لنفسه بالتنمّر على بلبل مجاور كان يشدو أعذب الألحان التي يطرَب لها جميع الغابيّين. وذات يوم بادره الغراب : أيها الرفيق العزيز، إنشادُك الذي تعتبره غاية في الروعة والبهاء كان سيتفوّق على إنشاد كل ضيوف هذه الغابة… لولا وجودي أنا شخصيا لانتزع منك هذا النصر المزعوم، وإن أنت شكّكت في ما أقول، ما عليك إلا أن تختار حكَما بيننا.

(صمت سينمائي يُخيّم داخل الأستوديو التلفزي وبحضور جمهور منتبه جدا لأن المخرج السينمائي عرف كيف يشدّ انتباهه قبل بداية القصّ).

في تلك اللحظة كان يمرّ من هناك خنزير وحشي قبِل أن ينتصب حَكَمًا بين الغراب والبلبل.

أنشد البلبل بُرهة وغنّى الغراب حينا وبقيا ينتظران التصريح بالحُكم. فكّر الخنزير مليّا ثمّ أعلن أن صوت الغراب أكثر إطرابا وإمتاعا من صوت البلبل.

انفجر البلبل باكيا عند سماع الحكم، فقال له الخنزير : هذا طبيعي أنك تبكي، لأنك خسرت الرّهان لا أكثر ولا أقل.

ردّ البلبل حينئذ : لا، مُطلقا، أبكي لأن لحني قيّمه خنزير.

صمت وجيز ثم تصفيق حارّ من قبل الجمهور الذي تابع القصة بكل انتباه… مُدركا أن المقصود هو كون الناقد السينمائي الحاضر هناك لم يكن مؤهّلا لتقييم الشريط المعروض.

ولكن ثمّة أيضا بعض القصص الأخرى التي لا تقلّ قوة ونموذجية في فنون الردّ الذي يُسكت الخصوم :

___مرّ شاعر بنسوة فأعجبه شأنهنّ، فقال فيهنّ:
إنّ النساء شياطين خلقن لنا … نعوذ بالله من شرّ الشياطين
فأجابته واحدة منهنّ، وقالت :
إنّ النساء رياحين خُلقن لكم … وكلّكم يشتهي شمّ الرياحين

___دخلت إحدى العجائز على السلطان تشكو إليه جنوده الذين سرقوا مواشيها بينما كانت نائمة .
فقال لها السلطان : كان عليك أن تسهري على مواشيك لا أن تنامي.
فأجابته : “ظننتك أنت الساهر يا سيّدي فنمتُ” .

قبل أن أُنهي بهذه :

___يُذكر أن رجلا التقى أبا الطيب المتنبّي فقال له : رأيتك من بعيد فظننتك امرأة، فردّ المتنبي : وأنا رأيتك من بعيد فظننتك رجلا !

هنالك تعبير  في عاميّتنا التونسية التي تعبّر بشكل عجيب عن هذا الفنّ الخصوصي في الكلام : “عطاهالو بين العينين”.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version