تابعنا على

جور نار

في “هولدِرلين” الألماني… شيءُ من غسّان كنفاني الفلسطيني !

نشرت

في

عاش الشاعر والفيلسوف الألماني فريديريش هُولدرْلين من 1770 إلى 1843 وكان قد قسّم حياته إلى نصفيْن متساوييْن : نصف للحبّ ونصفٌ للعزلة والجنون.

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

لا أدينُ شخصيا لمدرستنا التونسية بفرصة التعرّف على هذا الشاعر والفيلسوف المتميّز الذي يُعتبر من الرياديّين في انبعاث التيار الرومانسي الألماني، عاصر كلّ من كانط وغوتة وبيتهوفن وشوبنهاور وهيغل وشيلينغ… ربّما لأن واضعي برامجنا المدرسية على مرّ التاريخ ظلوا سُجناء صناديق تقليدية حازت على توافق عام ضمن العائلة التربوية في لحظة تاريخية ما، على مسار تطور الوجدان الثقافي العام في مجتمعنا التونسي، حيث ظلت تُرافقنا أسماء بعينها طيلة عقود بأكملها ولا نعرف شيئا عن أسماء أخرى في مجالات الشعر والأدب والفلسفة رغم عالميّتها وإسهامها الثابت في تاريخ الفكر الانساني…. بل أدينُ إلى الصّدفة فقط التي وضعت أمامي جملة قالها هُولْدرلين وأوقدت شغفي بالبحث قليلا في مسيرته، وهي :

“هناك حيث يتعاظم الخطر المحدق، تنمو كذلك فرص النجاة”

وهي فكرة موغلة حسب رأيي في تغذية روح المقاومة الجماعية والفردية حتى يتسنّى “الاستمرار في قرع جدران الخزّان” كما في رواية “رجال في الشمس” لغسّان كنفاني، وهي نفس الفكرة “المُقاوِمة” تقريبا التي أكّدها في رواية الأعمي والأطرش، حيث يقول “إن المعجزة ليست أكثر من الجنين الغريب الذي ينمو في رحم اليأس، ثم يولد على غير توقّع من أحد ليضحى جزء من الأشياء تبدو ناقصة من دونه“.

هذا التفاؤل الفجائعي المُنبعث من أعماق صهريج أبو الخيزران الحارق (رواية رجال في الشمس) تؤكده مقولة هولدرلين “تستمر الشمس في إضاءة الكون حتى وإن كُنّا لا نُبصرها“.

شدّني في الملامسة العفوية الأولى لمسيرة هولدرلين عنوانان كبيران : الأفكار المجدّدة التي عمل على تطويرها من ناحية وعلاقته بمُلهِمته وروح قلبه سوزيت غونتار من ناحية أخرى.

أولا : أفكار هولدرلين المُجدّدة

تصوَّرَ هولدرلين الفن بكونه وسيلة لكشف حقيقة الانسان بحيث يكون الفنان وسيطا بين ذات الانسان والذات الإلهية، وكأنه يقول في البدء كان الشّعر، لأنه يشكّل لغة البدايات، اللغة الأصلية للإنسانية التي تسمح باستعادة الوحدة الأساسية بين الانسان والطبيعة. فالشعر وسيلة لاسترداد معنى الحياة وإعادة ربط الصلة بالانسجام التّالف بين الانسان والعالم. كذلك انتقد هولدرلين بصفة جذريّة الحداثة والعقلانية اللتين سلبتا الانسان جوهره العميق وعلاقته بالعالم، وبالتالي لا بد من العودة إلى الطبيعة وإلى التقاليد والدين باعتبار ذلك مصدرا للمعنى والحقيقة. يعتبر أيضا أن الانسان كائن متناه ولا متناه في نفس الوقت أي محدودا في شرطه الانساني ولكن مفتوحا على اللامحدود في علاقة بالذّهن، مُطوّرا بذلك تصورا مبدعا للانسان باعتباره كائنا على قيد التحقّق والتطوّر قادرا على التجاوز والتحرّر من مكبّلاته بفضل الشعر والفن. وبشكل عام فإن إسهام هولدرلين الفلسفي يتميز بعمق في الرؤية وتجديد في التفكير أثّر كثيرا في عديد المفكرين خاصة في مجالات الجماليات وفلسفة الفن وفلسفة الثقافة والتأويلية.

ثانيا : هولدرلين يقع في حبّ أمّ تلاميذه وزوجة غونتار أشهر العائلات البنكيّة في فرانكفورت

في رسالة إلى صديقته، يكتب هولدرلين ” يوجد في هذا العالم كائن من الممكن أن يظل قربه كياني آلاف السنين . الحُسنُ والعظمة، السّكينة والحياة والذهن المتّقد، الروح والجسد يشكلان لديه وحدة طروبا”.  

كان حبا متبادلا بينهما، ويذهب أغلب النقّاد إلى اعتباره حبّا عذريّا صرفا ولا جزئية واحدة في مبادلاتهما البريدية المثيرة يشي بأية أبعاد شهوانية في علاقتهما.

المؤكّد أن حبّهما كان متبادلا تماما رغم “استحالته” ودقّة المكانة التي كان يحتلّها هولدرلين صلب العائلة الغونتارية والمخاطر التي تهدّدهما في حالة انكشاف علاقتهما. والرسالتان التاليتان تؤكدان هذا.

رسالة سوزيت غونتار (يُطلق عليها الشرقيون العرب إسم زوزيتّة) إلى هولدرلين – ديسمبر 1798 مساءً

“هل من الممكن أن تكون رسالتي إليك قد آلمتك وأحزنتك يا صديقي، بينما رسالتك أمتعتني وأسعدتني بشكل لا يُتصوّر. كانت مُفعمة بالحب، وكم كان قلبي يُجيب بكل الأصوات أثناء قراءتها عن منسوب الحرقة التي بها روحي تنجذب إلى روحك.  وأنتَ ! أيمكن أن تشكّ بحبّي ؟ أحزنتْك النبرة الباردة والجافة في رسالتي ؟ كم أنت مخطئٌ ! لو وقفت على وجعي ودموعي إزاء فكرة كهذه، لما فكّرتَ بهكذا شكل. لكن ربما ليس هذا ما أزعجك وأضناك، أنت تخشى دون شك أن ينطفئ قلبي وعندئذ لن يكون بمستطاعي الاستمرار في حبّك. لا أتوصل إلى تخيّل وقع كلماتي عليك، لكنني رأيتك باكيا ودموعك كانت تنزل مشتعلة على قلبي دون التمكن من إطفائها ! ظللتُ طوال السهرة صامتة ومصعوقة، وبحكم أنني وحيدة، جعلت من هذه اللحظة فرصة للترويح عن قلبي الملتاع. آآه، ليتني أسارع إليك لأواسيك ! لا أحتفظ بأي سرّ نحوك، يا روحي…  عندما أبدو صامتة وجافة، بالله عليك لا تشك بي، ذلك يعني أن النار تسري في الأعماق، وأنا، مثلك أنت تماما، يجب أن أحترز من الهُيام… ما يؤلمني ليس سوى استحالة أن أكون إلى جانبك الآن.”

وهذه رسالة من رسائل هولدرلين إلى “ديوتيمته” :

“ذهني ممتلئ بك عزيزتي “ديوتيما” (الإسم اليوناني للكاهنة التي علّمت سقراط الحكمة) إلى درجة أنني لا أستطيع الامتناع عن الكتابة إليك مرة أخرى في نفس اليوم.  تفكيري بكِ يتابعني حيث أذهب، وحتى في لحظاتي الأكثر انعزالا أشعر بحضورك معي. أنت منبع إبداعي وملهمتي وحبي المكين والأثمن. لا أستطيع تخيّل الحياة من دونكم (في النص الفرنسي يتوجه هولدرلين إلى سوزيت غونتار باستعمال جمع التقدير VOUS) و لا أريد أن أفعل ذلك. أنت التي بها أحيا وأتنفس، وكم أنا مدين لوجودك في حياتي.”

ثم يقول في رسالة أخرى :

“ديوتيما العزيزة، أنا سعيد جدا بأنك كتبتِ إليّ. رسائلك شعاع شمس في حياتي ومصدر فرح وارتياح. أنت حاضرة باستمرار في تفكيري حتى عندما أكون بصدد العمل أو منهمكا في أشياء أخرى. مفتون دائما بجمالك وذكائك وبهائك. أدرك أن حبَّنا محظور، لكن لا يمكنني الامتناع عن التعلق به أكثر من أي شيء آخر في العالم. أنت ملاكي، ملهمتي وإلهامي. أحبك أكثر مما تستطيع أن تقوله الكلمات.”

يتضح من خلال بعض هذه المقتطفات أن الحب الذي جمع هولدرلين بسوزيت غونتار لم يكن في اتجاه واحد بل كان حبّا متبادَلا تقاسمه كائنان عاشقان بكل ما فيه من عذوبة وعذاب ومن حضور وغياب. كما يتبيّن أنه مهما كانت حدود المسافات التي قرّبتهما وأبعدتهما الواحد عن الآخر، فالقارئ يلمس حرصا شديدا من الجانبين على توليد خطاب عاطفي رصين لا يترجم بالضرورة حِمم الحبّ البركاني الذي كان يأسرهما (على عكس رسائل سيمون دي بوفوار على سبيل المثال – أكثر من 300 رسالة- إلى صديقها الروائي الأمريكي نيلسون ألغران خلال السنوات الخمسين من القرن الماضي والتي كانت تنضح إشارات إلى الأبعاد الجسدية في العلاقة تصريحا وتلميحا) وذلك خوفا من التداعيات المدمّرة لو تنكشف العلاقة بينهما وخوفا كذلك من إمكانية نشر رسائلهما بعد وفاتهما. وهي خاصيّة تنسحب كذلك على رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمّان.

ما يُلاحظ أيضا هو أن لغة الرسائل التي يتبادلها هولدرلين وسوزيت غونتار للتعبير عن عشقهما المتبادل وتعلق كل منهما بالآخر، تكاد تكون لغة عادية لا شيء يشير فيها (خاصة من جهة هولدرلين) إلى عظمة فكرية أو جاه معرفي أو استثناء اجتماعي ما… في تأكيد على أن الإنسان واحد في هذا العالم وأن المعاجم التي يستدعيها المُغرمون هي واحدة أينما ولّيت وجهك.

يَعتبرُ هولدرلين أن “الحبّ أكثر عمقا من العقل” بما يؤكد أن تدهور حالته العقلية والنفسية وحالة العزلة التي فرضها على نفسه بعد رحيل سوزيت غونتار في جوان 1802 حتى توفي سنة 1843 كانت مؤشرا على أن مسيرته العاطفية أهم وأثمن بالنسبة إليه من مسيرته الشعرية والفلسفية.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن الثلاثين سنة، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1991… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار