في “هولدِرلين” الألماني… شيءُ من غسّان كنفاني الفلسطيني !
نشرت
قبل سنتين
في
عاش الشاعر والفيلسوف الألماني فريديريش هُولدرْلين من 1770 إلى 1843 وكان قد قسّم حياته إلى نصفيْن متساوييْن : نصف للحبّ ونصفٌ للعزلة والجنون.
لا أدينُ شخصيا لمدرستنا التونسية بفرصة التعرّف على هذا الشاعر والفيلسوف المتميّز الذي يُعتبر من الرياديّين في انبعاث التيار الرومانسي الألماني، عاصر كلّ من كانط وغوتة وبيتهوفن وشوبنهاور وهيغل وشيلينغ… ربّما لأن واضعي برامجنا المدرسية على مرّ التاريخ ظلوا سُجناء صناديق تقليدية حازت على توافق عام ضمن العائلة التربوية في لحظة تاريخية ما، على مسار تطور الوجدان الثقافي العام في مجتمعنا التونسي، حيث ظلت تُرافقنا أسماء بعينها طيلة عقود بأكملها ولا نعرف شيئا عن أسماء أخرى في مجالات الشعر والأدب والفلسفة رغم عالميّتها وإسهامها الثابت في تاريخ الفكر الانساني…. بل أدينُ إلى الصّدفة فقط التي وضعت أمامي جملة قالها هُولْدرلين وأوقدت شغفي بالبحث قليلا في مسيرته، وهي :
“هناك حيث يتعاظم الخطر المحدق، تنمو كذلك فرص النجاة”
وهي فكرة موغلة حسب رأيي في تغذية روح المقاومة الجماعية والفردية حتى يتسنّى “الاستمرار في قرع جدران الخزّان” كما في رواية “رجال في الشمس” لغسّان كنفاني، وهي نفس الفكرة “المُقاوِمة” تقريبا التي أكّدها في رواية الأعمي والأطرش، حيث يقول “إن المعجزة ليست أكثر من الجنين الغريب الذي ينمو في رحم اليأس، ثم يولد على غير توقّع من أحد ليضحى جزء من الأشياء تبدو ناقصة من دونه“.
هذا التفاؤل الفجائعي المُنبعث من أعماق صهريج أبو الخيزران الحارق (رواية رجال في الشمس) تؤكده مقولة هولدرلين “تستمر الشمس في إضاءة الكون حتى وإن كُنّا لا نُبصرها“.
شدّني في الملامسة العفوية الأولى لمسيرة هولدرلين عنوانان كبيران : الأفكار المجدّدة التي عمل على تطويرها من ناحية وعلاقته بمُلهِمته وروح قلبه سوزيت غونتار من ناحية أخرى.
أولا : أفكار هولدرلين المُجدّدة
تصوَّرَ هولدرلين الفن بكونه وسيلة لكشف حقيقة الانسان بحيث يكون الفنان وسيطا بين ذات الانسان والذات الإلهية، وكأنه يقول فيالبدء كان الشّعر، لأنه يشكّل لغة البدايات، اللغة الأصلية للإنسانية التي تسمح باستعادة الوحدة الأساسية بين الانسان والطبيعة. فالشعر وسيلة لاسترداد معنى الحياة وإعادة ربط الصلة بالانسجام التّالف بين الانسان والعالم. كذلك انتقد هولدرلين بصفة جذريّة الحداثة والعقلانية اللتين سلبتا الانسان جوهره العميق وعلاقته بالعالم، وبالتالي لا بد من العودة إلى الطبيعة وإلى التقاليد والدين باعتبار ذلك مصدرا للمعنى والحقيقة. يعتبر أيضا أن الانسان كائن متناه ولا متناه في نفس الوقت أي محدودا في شرطه الانساني ولكن مفتوحا على اللامحدود في علاقة بالذّهن، مُطوّرا بذلك تصورا مبدعا للانسان باعتباره كائنا على قيد التحقّق والتطوّر قادرا على التجاوز والتحرّر من مكبّلاته بفضل الشعر والفن. وبشكل عام فإن إسهام هولدرلين الفلسفي يتميز بعمق في الرؤية وتجديد في التفكير أثّر كثيرا في عديد المفكرين خاصة في مجالات الجماليات وفلسفة الفن وفلسفة الثقافة والتأويلية.
ثانيا : هولدرلين يقع في حبّ أمّ تلاميذه وزوجة غونتار أشهر العائلات البنكيّة في فرانكفورت
في رسالة إلى صديقته، يكتب هولدرلين ” يوجد في هذا العالم كائن من الممكن أن يظل قربه كياني آلاف السنين . الحُسنُ والعظمة، السّكينة والحياة والذهن المتّقد، الروح والجسد يشكلان لديه وحدة طروبا”.
كان حبا متبادلا بينهما، ويذهب أغلب النقّاد إلى اعتباره حبّا عذريّا صرفا ولا جزئية واحدة في مبادلاتهما البريدية المثيرة يشي بأية أبعاد شهوانية في علاقتهما.
المؤكّد أن حبّهما كان متبادلا تماما رغم “استحالته” ودقّة المكانة التي كان يحتلّها هولدرلين صلب العائلة الغونتارية والمخاطر التي تهدّدهما في حالة انكشاف علاقتهما. والرسالتان التاليتان تؤكدان هذا.
رسالة سوزيت غونتار (يُطلق عليها الشرقيون العرب إسم زوزيتّة) إلى هولدرلين – ديسمبر 1798 مساءً
“هل من الممكن أن تكون رسالتي إليك قد آلمتك وأحزنتك يا صديقي، بينما رسالتك أمتعتني وأسعدتني بشكل لا يُتصوّر. كانت مُفعمة بالحب، وكم كان قلبي يُجيب بكل الأصوات أثناء قراءتها عن منسوب الحرقة التي بها روحي تنجذب إلى روحك. وأنتَ ! أيمكن أن تشكّ بحبّي ؟ أحزنتْك النبرة الباردة والجافة في رسالتي ؟ كم أنت مخطئٌ ! لو وقفت على وجعي ودموعي إزاء فكرة كهذه، لما فكّرتَ بهكذا شكل. لكن ربما ليس هذا ما أزعجك وأضناك، أنت تخشى دون شك أن ينطفئ قلبي وعندئذ لن يكون بمستطاعي الاستمرار في حبّك. لا أتوصل إلى تخيّل وقع كلماتي عليك، لكنني رأيتك باكيا ودموعك كانت تنزل مشتعلة على قلبي دون التمكن من إطفائها ! ظللتُ طوال السهرة صامتة ومصعوقة، وبحكم أنني وحيدة، جعلت من هذه اللحظة فرصة للترويح عن قلبي الملتاع. آآه، ليتني أسارع إليك لأواسيك ! لا أحتفظ بأي سرّ نحوك، يا روحي… عندما أبدو صامتة وجافة، بالله عليك لا تشك بي، ذلك يعني أن النار تسري في الأعماق، وأنا، مثلك أنت تماما، يجب أن أحترز من الهُيام… ما يؤلمني ليس سوى استحالة أن أكون إلى جانبك الآن.”
وهذه رسالة من رسائل هولدرلين إلى “ديوتيمته” :
“ذهني ممتلئ بك عزيزتي “ديوتيما” (الإسم اليوناني للكاهنة التي علّمت سقراط الحكمة) إلى درجة أنني لا أستطيع الامتناع عن الكتابة إليك مرة أخرى في نفس اليوم. تفكيري بكِ يتابعني حيث أذهب، وحتى في لحظاتي الأكثر انعزالا أشعر بحضورك معي. أنت منبع إبداعي وملهمتي وحبي المكين والأثمن. لا أستطيع تخيّل الحياة من دونكم (في النص الفرنسي يتوجه هولدرلين إلى سوزيت غونتار باستعمال جمع التقدير VOUS) و لا أريد أن أفعل ذلك. أنت التي بها أحيا وأتنفس، وكم أنا مدين لوجودك في حياتي.”
ثم يقول في رسالة أخرى :
“ديوتيما العزيزة، أنا سعيد جدا بأنك كتبتِ إليّ. رسائلك شعاع شمس في حياتي ومصدر فرح وارتياح. أنت حاضرة باستمرار في تفكيري حتى عندما أكون بصدد العمل أو منهمكا في أشياء أخرى. مفتون دائما بجمالك وذكائك وبهائك. أدرك أن حبَّنا محظور، لكن لا يمكنني الامتناع عن التعلق به أكثر من أي شيء آخر في العالم. أنت ملاكي، ملهمتي وإلهامي. أحبك أكثر مما تستطيع أن تقوله الكلمات.”
يتضح من خلال بعض هذه المقتطفات أن الحب الذي جمع هولدرلين بسوزيت غونتار لم يكن في اتجاه واحد بل كان حبّا متبادَلا تقاسمه كائنان عاشقان بكل ما فيه من عذوبة وعذاب ومن حضور وغياب. كما يتبيّن أنه مهما كانت حدود المسافات التي قرّبتهما وأبعدتهما الواحد عن الآخر، فالقارئ يلمس حرصا شديدا من الجانبين على توليد خطاب عاطفي رصين لا يترجم بالضرورة حِمم الحبّ البركاني الذي كان يأسرهما (على عكس رسائل سيمون دي بوفوار على سبيل المثال – أكثر من 300 رسالة- إلى صديقها الروائي الأمريكي نيلسون ألغران خلال السنوات الخمسين من القرن الماضي والتي كانت تنضح إشارات إلى الأبعاد الجسدية في العلاقة تصريحا وتلميحا) وذلك خوفا من التداعيات المدمّرة لو تنكشف العلاقة بينهما وخوفا كذلك من إمكانية نشر رسائلهما بعد وفاتهما. وهي خاصيّة تنسحب كذلك على رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمّان.
ما يُلاحظ أيضا هو أن لغة الرسائل التي يتبادلها هولدرلين وسوزيت غونتار للتعبير عن عشقهما المتبادل وتعلق كل منهما بالآخر، تكاد تكون لغة عادية لا شيء يشير فيها (خاصة من جهة هولدرلين) إلى عظمة فكرية أو جاه معرفي أو استثناء اجتماعي ما… في تأكيد على أن الإنسان واحد في هذا العالم وأن المعاجم التي يستدعيها المُغرمون هي واحدة أينما ولّيت وجهك.
يَعتبرُ هولدرلين أن “الحبّ أكثر عمقا من العقل” بما يؤكد أن تدهور حالته العقلية والنفسية وحالة العزلة التي فرضها على نفسه بعد رحيل سوزيت غونتار في جوان 1802 حتى توفي سنة 1843 كانت مؤشرا على أن مسيرته العاطفية أهم وأثمن بالنسبة إليه من مسيرته الشعرية والفلسفية.