… تتضخّم وتتعاظم وتؤكّد أن تعليمنا أضحى بسُرعتين !
نشرت
قبل 10 أشهر
في
ليس أمرا مأساويا في نظري أن تتضافر جملة من العوامل التاريخية والسياسية والاجتماعية لتنمو المبادرة الخاصة ويتوفّق رأس المال إلى اكتشاف مكامن جديدة للاستثمار وتوليد الثروة، لأن ذلك من طبيعة اقتصادات السوق ومن صميم منطق “وضع الأموال في المعاقل التي تُنتج أموالا”.
لكن ذلك يكون مُستساغا أكثر عندما يتعلق الأمر بقطاعات اقتصادية وصناعية وتجارية وخدميّة مُشغّلة لأعداد كبيرة جدا من التونسيين، وقادرة على إعادة تمركز “منتجات الذكاء التونسي” في خارطة العالم، بما يُدعّم اقتصادنا ويُعدّل موازيننا ويُعزز سيادتنا. أما أن تبلغ “الخصخصة” مستويات فاحشة في ثلاثة مرافق بعينها: التعليم والصحة والنقل… فذلك مؤشر خطير على تراجع الدولة عن دورها الحاسم في حماية الخدمات الاستراتيجية والحيوية، وضمان حق من لا موارد لديه في خدمات تُضاهي في جودتها ما تجود به المؤسسات الخاصة على من هم أقدر على الدّفع.
فالأمر لا يتصل هنا بالحق في السّفر للجميع ولا بالحق في الاصطياف للجميع ولا بالحق في المسكن واللباس اللائقين للجميع … كل تلك الحقوق رغم مشروعيتها تخلّى عنها الجميع لانتفاء شروط تحقّقها في اللحظة الراهنة، ولترتيبها نسبيا في أسفل سلّم الأولويات الحيوية… لكن أن يُصبح التعليم الجيد غير مكفول إلا لمن يسلخ جلده حتى يوفر المبالغ الكبرى التي تطلبها المؤسسات الخاصة، وأن تتدنّى خدمات كبرى المستشفيات إلى ما تحت مستوى مراكز الخدمات الأساسية، وأن تقتصر الأدوية التي تتوفر بصيدليات المستشفيات على “الكينة” والأسبيرين، وأن تُعاني الأمرّين وأنت تنتظر وسائل نقل عمومية كأنها عُدّت لنقل المواشي… فذلك واقع يُنذر بخراب مُعمّم وانقسام الخدمات العمومية نهائيا إلى واحدة ذات جودة عالية خُصّت بها الطبقات الاجتماعية الميسورة، وأخرى متدنية المستوى تكتوي بنار رداءتها جموع الفقراء والمتروكين لحالهم على رصيف الحياة.
وهذا ما تقوله الأرقام في ما يخص التعليم العالي الخاص في تونس :
___ تَبيّن من خلال دراسة أنجزها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية سنة 2021 حول التعليم الخاص في تونس بين سنة 2010 و 2020، أن تطوّرا بـ 500 % سُجّل في عدد المُلتحقين بالتعليم الخاص بما جعل عدد المدارس الابتدائية الخاصة يمرّ من 102 سنة 2010 إلى 600 مدرسة سنة 2020. وهو ما جعل عدد المسجلين في التعليم الابتدائي يرتفع من 21 ألفا إلى 98 ألفا (+ 355 % )
___ وفي الإعدادي والثانوي مررنا من 292 مؤسسة إلى 445 سنة 2020.
___ وحسب المعطيات الرسمية لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي تضاعف تقريبا عدد مؤسسات التعليم العالي الخاص مسجلا ارتفاعا من 45 مؤسسة سنة 2012/2013، إلى 80 مؤسسة سنة 2022/2023 . وتطور عدد الطلبة المسجلين في مؤسسات التعليم العالي الخاص من 21880 سنة 2012 /2013 إلى 44988 سنة 2022/2023 . في حين كان نصيب القطاع الخاص من الطلبة لا يتجاوز 4.5 % سنة 2012 ليبلغ 14.7 % سنة 2023.
___ أما عدد أصحاب الشهائد المتخرجين من التعليم العالي الخاص فقد مرّ من 3259 سنة 2012 إلى 11238 متخرجا سنة 2022 (أي تضاعف حوالي 4 مرات). بحيث أصبح عدد المتخرجين من مؤسسات التعليم العالي الخاص حوالي 18 % مقارنة بمجموع أصحاب الشّهائد الجامعيّة المتخرجين من منظومة التعليم العالي. (بينما كان لا يتجاوز 6% سنة 2012).
ويتبيّن من خلال هذه الأرقام بكل وضوح أن نسب التطور التي سجّلها قطاع التعليم العالي الخاص في ظرف وجيز، يعادل أضعاف المرات ما سجله من تطور خلال عقود بأكملها. بما يدفع للتساؤل حول طبيعة العوامل السياسية والاجتماعية التي أدّت خلال العشرين سنة الماضية إلى انتعاش هذه الشبكة من المؤسسات الجامعية الخاصة، بعدما ظلت مقتصرة لسنوات طويلة على التعليم الثانوي (اختصّت بصورة أساسية في استيعاب من لفظتهم منظومة التعليم العمومي وبقوا مستمسكين بإمكانية تجاوز عقبة الباكالوريا، ومواصلة دراساتهم الجامعية أو تحصيل المستوى الدراسي الأدنى لضمان المشاركة في مناظرات معينة مثل الأمن والحماية المدنية والديوانة والجيش الوطني).
كما يتّضح أيضا أنه إذا استمرّ نسق التطور على هذا النحو السريع والمتصاعد. فنسبة الخُمس تقريبا التي يتمتع مرفق التعليم العالي الخاص اليوم بها من مجموع المنظومة الوطنية للتعليم الجامعي، قد ترتقي خلال السنوات القليلة القادمة إلى مستوى النصف لتتأكد بشكل نهائي صورة التعليم العالي بسرعتين : سرعة لأبناء الميسورين الراغبين في متابعة دراستهم الجامعية في اختصاصات يميلون إليها أكثر من غيرها وتُفضي إلى آفاق تشغيلية أفضل من غيرها (أو الاثنين معا… وهي الصورة المثالية التي نتمنّاها لكل بناتنا وأبنائنا) وسرعة ثانية أقرب إلى التمهّل والمشي البطيء لمن لم يسعفهم لا وفرة المال ولا فيض الذكاء والتميّز فاختاروا مُكرهين سُبلاً وعرة لا ينجو من لؤم مفاجآتها وإكراهاتها إلا النّزر القليل.
ثلاثُ ملاحظات أخيرة بشأن فقاعة التعليم العالي الخاص في تونس
أولا : نصيب الأسد لتكوين المهندسين
عدد الطلبة المسجلين في المراحل التحضيرية للدراسات الهندسية وفي الاختصاصات الهندسية وشهائد الاختصاص (22339 طالب) هو بالضبط نصف العدد الجملي للمسجلين بالتعليم العالي الخاص (44988) والموزعين على شهائد الإجازة والماجستير في باقي الاختصاصات، وهو مؤشر يدلّ على معرفة العائلة التونسية باتجاهات التشغيلية في تونس وفي العالم اليوم، وبالاستطاعات المطلوبة من قِبل صيّادي الرؤوس في سياق اقتصادي مُعولم.
ثانيا : العلوم الانسانية والاجتماعية واللغات لا تُغري القطاع الخاص
23715 هو العدد الجملي للطلبة في مجالات الإعلامية والملتميديا والاختصاصات الهندسية و”التقنيات ذات العلاقة” مقابل 550 طالبا فقط في الفنون و79 طالبا في الآداب و 1291 طالبا في الحقوق و42 طالبا في الصحافة وعلوم الاتصال و311 طالبا في “علوم الاجتماع والسلوك”. ذلك يعني أن المنزع العام لتطور قطاع التعليم العالي الخاص تُهيمن عليه اعتبارات السّوق والحاجة إلى العمليّاتية المباشرة للمتخرّج، وليس للتوليفة التكوينية المتوازنة التي من المفروض أن تكون متعددة الأبعاد تتصل فيها الكفاءة العملياتية بالنواحي الفلسفية والانسانية والفنية والتواصلية التي لا تقل أهمية عن التكوين الأساسي من أجل تشكيل شخصية الشاب ونحت توازنها.
ثالثا : ما يعجز عن تحقيقه مجموع النقاط في العمومي، تُحقّقه الأموال في القطاع الخاص
من أهمّ أوجه عدم التكافؤ المسجّل في العلاقة بين التعليم العالي العام والتعليم العالي الخاص، أن المؤهلات المطلوبة لولوج الاختصاصات التي تؤويها الجامعات الخاصة أدنى بكثير مما تفرضه نفس الاختصاصات في الجامعات العمومية (مثل الدراسات الهندسية والأقسام التحضيرية التقليدية والمندمجة والاختصاصات شبه الطبية وحتى شعبة الحقوق…) لكن في النهاية يجد جميع الطلبة أنفسهم هنا وهناك بنفس الشهائد ونفس الآفاق. ويبرز هذا الاختلال خاصة في علاقة بالاختصاصات شبه الطبية (التمريض والتبنيج والعلاج الطبيعي والتصوير الطبي والتغذية وتقويم النطق …) التي تستوعب الآلاف من الطلبة نجحوا في الباكالوريا بمعدلات عاديّة في جامعات خاصة بعينها، بينما لا يدخلها في العمومي إلا بعض العشرات وبمعدلات عالية جدا (حيث يتجاوز أحيانا مجموع نقاط التبنيج مثيله المطلوب في كليات الطب أو الصيدلة). والأدهي أن هؤلاء المنتمين إلى القطاع الخاص يُجرون تربصاتهم في المستشفيات العمومية قبل التخرّج… لتجد وزارة التعليم العالي نفسها مُجبرة على منحهم شهائد المعادلة (أقول مُجبرة لأن بعض المؤسسات لا تحترم إجراءات التسجيل في هذه الاختصاصات) وتسجيل أرقام إضافية لطالبي التشغيل في القطاع العام.