وزارات للرّفاه و السّعادة و مقاومة التهرّم و الشؤون الريفيّة و الاقتصاد الأزرق و اجتثاث الفقر …
نشرت
قبل 4 سنوات
في
استهْوتني فكرة إلقاء نظرة مقارنة على أكثر من خمسين تركيبة حكومية عبر العالم بهدف محاولة استلهام بعض قواعد التسيير الحكومي و تبيّن موقع المقاربة التونسية في تشكيل الحكومات ضمن ما هو سائد في بلدان كثيرة موزّعة على القارّات الخمس.
قواسم مشتركة :
تختلف المقاربات و الصيغ في تشكيل الحكومات حسب الائتلافات السياسية الحاكمة وإكراهات المحاصصة الحزبية و حسب تقاليد الحَوْكمة الضّاربة في التاريخ بالنسبة الى بعض البلدان … كما تتأثّر أيضا ببعض الخصوصيات المحلية التي تقتضي إضافة وزارة هنا و كتابة دولة هناك كما سنبيّن ذلك لاحقا من خلال بعض الأمثلة… لكن هنالك توجهات عامّة تشترك فيها أغلب الدول و تفرضها مبادئ الحوكمة الرشيدة و العصرية و ضرورة التقليص من النفقات و ترشيد استعمال المال العام.
من بين هذه القواسم المشتركة نذكر :
* محافظة أغلب بلدان العالم على البقاء ضمن ما هو متعارف عليه في تمكين القطاعات التقليدية من وزارة أو كتابة دولة و تتوزع بصفة عامة بين وزارت الأمن الداخلي و الخارجي و وزارات الإنتاج و وزارات الخدمات الاجتماعية و الثقافية و التربوية.
* باستثناء بعض البلدان النامية، تتركز جهود العديد من الدول على تجميع الوزارات في أقطاب اختصاص قطاعي (الإكوادور مثالا) و تعيين وزير منسّق لكل قطب. فقطب التنمية الاجتماعية يضم الرياضة و السكن و الصحة، و يضم قطب الإنتاج قطاعات الفلاحة و الصناعة و السياحة. أما قطب الأمن فتتجمّع ضمنه وزارات الداخليّة و الدفاع و العدل و العلاقات الخارجية.
* يتضح من خلال هذه المقارنة السريعة أنه بقدر ما تكون الأوضاع السياسية و الاجتماعية مستقرة و نسب النمو الاقتصادي مرتفعة بقدر ما تسهل مهمّة “قائد الاوركسترا” التي يتعهّدها الوزراء بما يمكنهم من الإشراف على ثلاثة أو أربعة قطاعات في نفس الوقت ( نفس الوزارة للتربية و الطفولة و الشباب و التعليم العالي و البحث العلمي في اللوكسمبورغ، و نفس الوزارة للشغل و الشؤون الاجتماعية و حماية المستهلكين في النمسا)
* ثمّة توجه بدأ في الانتشار و يتمثل في إفراد بعض الاهتمامات التي اقتضاها السياق البيئي أو السياسي الدولي العام بحقائب خصوصية ضمن التشكيلات الحكومية مثل وزارة الحوكمة الرشيدة و وزارة تكافؤ الفرص (السينغال و السويد و تنزانيا) و الإصلاح الإداري و إصلاح مؤسسات الدولة (اليابان و لبنان و قبرص و الهندوراس) و وزارة الرقمنة (بولونيا) و وزارة التغيّر المناخي ( جزر سيشل) أو وزارة البيئة و الشؤون المناخيّة (سلطنة عُمان) …
* يتأكد أن جودة أداء الحكومات لا يُقاس من خلال اتساع رقعة التعيينات الوزارية و الوظائف السّامية بقدر ما يُقيّم من خلال القدرة على التنسيق بين الهياكل و الإدارات القائمة و خلق ديناميكية مُنتجة بينها ( 9 وزراء مع رئيس حكومة فقط في إيزلندا، أقل من 20 وزيرا بجمهورية الصين الشعبية، 5 مستشاري حكومة مع وزير دولة في موناكو، 12 وزيرا فحسب في البرتغال…).
بلدان قطعت مع الوصفات التقليدية
يتضح من خلال تصفّح التّشكيلات الحكوميّة في بلدان عديدة في العالم أن كثيرا من الدّول تجتهد في ابتداع حقائب “تخرج عن المألوف” و تسعى الى التلاؤم أكثر ما يمكن مع خصوصياتها المحلية بيئيا و اقتصاديا و اجتماعيا و سياسيا.
فهاجس البيئة و النظافة و جمال المدينة نجد أثرا له في وزارة النظافة و السكن و المدينة بكينيا (ألم يتمّ اختيار مدينة كيغالي برواندا من قبل منظمة الأمم المتحدة كأنظف مدينة إفريقية سنة 2015 ؟) و مجهودات إعادة البناء لها حضور خاص في التشكيلة الحكومية اليابانية إلى حدّ الآن بعد الآثار المدمّرة للحرب العالمية الثانية … أمّا جمهورية الصين فلها وزارة للاستشراف و أخرى للموارد المائية.
من ناحية أخرى تخصص جمهورية مصر العربية وزارة للدفاع و الانتاج الحربي بالنظر إلى موقع المؤسّسة العسكرية في النسيج الاقتصادي المصري و وزارة أخرى للآثار القديمة مستقلة عن وزارة الثقافة.
و كذلك بالنسبة إلى البيئة و الرّفاه، فهنالك اهتمام متزايد بهذه المستويات الهامّة في حياة المجتمعات اليوم، حيث تخصص السّيشل وزارة للاقتصاد الأزرق (لون السماء و المحيطات و لون كوكب الأرض إذا نظرت إليه من السماء) و أخرى للتجديد، و تُفرد إيران وزارة للرّفاه الاجتماعي. أما منغوليا فلها وزارة تُعنى بالبيئة و السياحة و التنمية الخضراء.
حقائب وزارية متفرّدة تُمليها الخصوصية الوطنية المحلية
شاءت الظروف التاريخية التي عاشتها بعض البلدان أن ترتقي بعض الملفات غير ذات الشأن هنا إلى ملفات استراتيجية هناك قادرة على افتكاك وزارة أو كتابة دولة للنهوض بها على أحسن وجه … فحرب التحرير الوطني في الجزائر و ارتفاع عدد شهدائها أعطى وزارة للمجاهدين … و طبيعة النمو الديموغرافي الخاص و الرغبة في إشعاع اليابان رياضيّا أنتج وزارة لمقاومة التهرّم السكاني و أخرى لــــ “الألعاب الأولمبية” … أما حتمية مواكبة التحولات التكنولوجية المتسارعة في العالم، فقد فرض على المانيا تخصيص وزارة للنقل و البنية الرقمية و أخرى للأمن النووي.
من جهة أخرى، تخصص السويد وزارة للشؤون الريفية (على عكس ما قد يتصوره البعض) و وزارة ثانية للعدالة بين الجنسين (مع الطفولة و المسنّين) و ثالثة لتعليم الكهول (كمكوّن اساسي في وزارة التعليم الثانوي و تعليم الكهول و التدريب). كما نعثر على وزارة مخصصة للنهوض بالمناطق الرعويّة في أثيوبيا إضافة إلى وزارة خاصة بـــ “الحيوانات و موارد الصيد البحري”.
كما أن ظاهرة انتشار الرشوة و استشراء الفساد على مستوى مختلف مفاصل الدولة و الإدارة أرخت بظلالها هي الأخرى على ملمح التشكيل الحكومي في بعض البلدان … حيث تخصص اليونان و بوليفيا وزارة لمحاربة الرشوة بينما تخصص لها بعض البلدان حقائب وزارية تحت مسمّيات أخرى أكثر “لياقة سياسية” مثل وزارات الحوكمة الجيّدة في السينغال و أثيوبيا و الهندوراس و تنزانيا و “كتابة الدولة لضمان شفافية التصرف” في الإكوادور.
و في النهاية، تدفعنا فرادة بعض الملفات و تخصيص وزارات لها إلى الإشارة لملف الفرنكوفونية في اللاوس أو الرقمنة في بولونيا و المُهجّرين في لبنان و الشّتات في أرمينيا و تنسيقيّة الموهبة البشرية والمعرفة في الإكوادور أو التربية و تطوير المهارات في بوتسوانا و اجتثاث الفقر في ناميبيا و تخصيص وزارة للاستعلامات في إيران (مستقلة عن وزارة الدفاع) و غياب وزارة للتربية أو التعليم العالي في تنزانيا (!!!).