ككل عام في يوم كهذا (30 مارس) نستعيد ذكرى نبإ صدم أجيالا بكاملها وهي التي لم تتوقع قسوة هذا النبإ… فالنجم كثيرا ما سافر للعلاج وغاب ولكنه دائما يعود وفي البال أغنية، وفي الموعد عمل يستغرق شهورا ويعيش دهرا … أما هذه المرة، فلا عودة ولا نغم جديد … لا يمكن، لا يمكن … لعلها من أكاذيب أفريل الذي سيأتي بعد يومين …
شئل مرة المذيع الكبير صالح جغام: لماذا تتحدث عن عبد الحليم حافظ؟ فأجاب: ولماذا “لا” أتحدث عن عبد الحليم ؟ لست أكثر جدية ولا أقوى حرفية من مجلة “جون أفريك” التي خصصت غلافها احتفاء بذكراه … ولا من عشرات الأقنية التلفزية والمحطات الإذاعية التي قطعت بثها أو صدّرت نشرتها بخبر وفاته في 30 مارس 1977 … ولا من ملايين الناس الذين انتابهم حزن غامر وحتى هستيري عند إعلان مستشفى كينغز كوليدج بلندن عن رحيل أهمّ مطرب عربي في القرن العشرين … حسب توصيف وكالات الأنباء لذلك اليوم …
تماما كالأساطير التي لا تفسّر، كانت حياة عبد الحليم العابرة كالشهاب الذي يختفي بسرعة بعد أن يضيء الكون كله … وتماما كقصص الحب التي لا توقيت لها ولا منطق، وحدت نفسي حليميا دون سابق معرفة بالفن أو غرام بالأغاني … وحده الرجوع بالذاكرة يحاول أن يجد تفسيرا لهذا الوله الشخصي بكل ما له صلة بالعندليب الساحر … كان ذلك في أواسط الستينات وكنا صغارا، وقتها جاء مطربنا في ضيافة لمهرجان طبرقة كما تقول الوثائق وكما حكى لي الصديق المرحوم بوراوي بن عبد العزيز … أقام حليم فترة مطولة نسبيا غنى فيها للجمهور كما غنى للزعيم في عيد ميلاده …
أما أغانيه للجمهور فكانت “كامل الأوصاف” و “حبيبها” للموجي، و”الويل الويل” لعبد الوهاب، و خاصة ثلاثية بليغ (سواح، على حسب وداد، أنا كل ما اقول التوبة) … ست أغان كانت كافية لكي تشعل النار في ساحة فنية كانت راكدة نسبيا … فالإذاعة (الوحيدة) ظلت تقاطع بث الأغاني المصرية أثناء خصام الزعيمين بورقيبة وعبد الناصر عقب خطاب أريحا … سنة مرت على تلك المقاطعة التي سرعان ما بدأت تنقشع وتشهد إعادة فتح حدودنا الفنية والإذاعية أمام الأشقاء … في أثناء هذا الغياب كانت الأغتية المصرية تشهد تحوّلا رهيبا أحدثه الملحن الشاب بليغ حمدي … مع محمد رشدي وشادية وأم كلثوم … فما كان من “الذكي جدا” عبد الحليم حافظ إلا أن التحق بالركب وزاحم كعادته واختطف قصب السبق من الجميع !
لذلك اندهش جمهورنا وقتها وهو بشاهد أمامه مطريا تعوّدت نخبة محدودة على رؤيته فقط في الأفلام الرومانسية صورة حالمة وتنهدات بلا نهاية … الآن صارت الألوف تتابعه بانبهار وهو يقف على المسرح ويقدم أغنبات ذات مذاق شعبي لذيذ … ويزيد على ذلك بأن يتفاعل مع عزف عمالقة نكتشفهم لأول مرة (سمير سرور، محمود عفت، حسن انور، مختار السيد) … ويتفاعل هذا الشاب الطروب النحيف مع الجمهور نفسه، فهو يهديه ضحكا وكلاما حلوا ويرشقه بالياسمين وبقبل منه هدية في شكل جبة تونسية ارتداها للتوّ وأكمل بها عرضه الغنائي …
قلت إنه غنى للزعيم بورقيبة، والحقيقة أن عبد الحليم كانت لديه حاسة دبلوماسية فريدة … كان يعرف أن العرب على دين ملوكهم، وأنه إذا أردت أن تصل إلى الشعب فعليك بأن تطرق أكبر أبوابه، وأكبر الأبواب هو باب صاحب السلطة… خصوصا أن بلدك كان في خصومة معه وأنت جئت رسول محبة وسلام بين الشعبين (“من شعب مصر ومنّي، أهدي إليك تحية) … والتحية كانت من كتابة شاعرنا عبد المجيد بن جدو، ومن تلحين ذلك الموهوب (بليغ حمدي) الذي في وقت وجيز، هضم جملة ألحان تراثية تونسية واستخرج منها موسيقى رائعته “يا مولعين بالسهر” …
وكانت النتيجة هي ما يصحّ تشبيهه بسريان النار في الهشيم … في زيارته لطبرقة، أصاب عبد الحليم عدة عصافير بحجر واحد … فقد وطّد علاقته بجمهوره القديم الذي عاد يسمعه في الإذاعة ويكتشف فيه قدرات وأساليب ثورية لم يعهدها … وعادت الإذاعة تبث أغانيه الجديدة الجميلة على مدار اليوم … واكتسب جمهورا جديدا بأضعاف أضعاف ما كان لديه، وربما شمل كافة الأجيال الشابة التي ولدت بين الخمسينات والستينات … وفيها من لم يكن يهتم أصلا بالغناء وبالمغنين، فأصبح يهوى الفن ويحب الاستماع إليه … ومنه كاتب هذه الأسطر …
العنصر المضاف الآخر في الحكاية هو ظهور التلفزيون ومعظم القنوات العربية الرسمية ولدت في تلك الفترة (الستينات) ومنها التلفزة التونسية الحديثة التأسيس وقتها … وهكذا وبعد أن كانت صورة حليم حبيسة قاعات السينما المظلمة،أو الاسطوانات التي ليست متاحة لأي كان، أصبحت صورته تُرى على الشاشات الصغيرة بعدد ما فتئ يكبر، وتتم دمقرطته من المقاهي واللجان الثقافية إلى ملايين البيوت مع مر السنوات … كما أن جودة تساجيل مخرجينا الأوائل (عبد الرزاق الحمامي، سالم الصيادي، يوسف اليحياوي…) جعلت الفنانين المصريين والعرب يتسابقون في ما بعد على القدوم إلى تونس وتسجيل حفلاتهم وتخليد أغانيهم رفقة جمهور كان من ذهب …