وأساطيل الدول العظمى وترساناتها الجرّارة تتكاتف وتتكاثف ضد رقعة أرض فلسطينية لا يتجاوز حجمها ثلثي جزيرة جربة، تندهش تمام الاندهاش وأنت ترى الأنظمة العربية تتفرج على المذبحة وكأنها تحدث في كوكب بعيد…
لنترك جانبا معاني الانتماء فقد نجحت جهات إيديولوجية كثيرة في طمسها، وأصبح تعاطف العرب مع آلاف ضحايا غزة ـ هذا إذا تعاطفوا ـ يقتصر على الإنسانية والكونية والأخلاق والرحمة بالنساء والأطفال وكبار السن … يعني كمن ينقل الشأن الفلسطيني من مشمولات وزارات الخارجية إلى وزارة المرأة التي تشرف عليها عندنا وباجتهاد كبير الشاعرة آمال موسى … يعني أيضا أن كل فلسطيني ليس طفلا ولا امرأة ولا عجوزا في الغابرين، ليس له الحق في الحياة، فضلا عن الدفاع عن موطن وسلامة وكرامة ومستوى عيش لائق … ويعني أخيرا أنه لا يربطنا بهذا الفلسطيني سوى أننا وإياه ننتمي إلى ذات فصيلة الثدييات التي تسير على قدمين و تفكر وتتكلم … ألم يقل وزير من حكومة الاحتلال بأن هؤلاء “حيوانات”، ولا أعتقد أنه يقصد بني فلسطين حصرا …
لنترك جانبا جميع الصلات التي كانت تربطنا بمواطني غزة والضفة و 48 والشتات، ولنقرأ الأحداث بمنطق ما حصل في الثلاثين سنة الأخيرة فقط … فما يقال اليوم عربيا بأنها فقط قضية بين حماس و”إسرائيل”، قيل سابقا قبل غزو العراق وتبرأ عديدون منه وتركوه وحيدا … وفيهم حتى من هرول مساعدا بقواته ضد البلد الشقيق، فماذا حصل لهم بعدها؟ … جماعة الحشد العظيم وراء الجيش الأمريكي في “حفر الباطن” السعودية على حدود العراق سنة 1991، أين هم الآن؟ أكيد ضمّتهم الولايات المتحدة إلى صفوتها وحماها ورخائها وحلفها الأطلسي وحضارتها التي لطالما تغنوا بها في تلك الأيام … أكيد، أكيد …
أكيد ثالثة … بدليل أن:
ـ حسني مبارك، الذي صوّره إعلامه وقتها على أنه الحليف الأقوى للأمريكان ولا يمكن لهم الاستغناء عن حكمته ووزنه وصداقته الأبدية … اشتغلوا به ردحا من الزمن وعند أول منعطف قذفوا به خارج السيارة كمنديل ورق مستعمل … وما تزال تلك المشاهد الذليلة له وهو وأولاده بملابس السجناء، منقول على سرير من معتقل لمعتقل ومن محكمة إلى محكمة كأي منحرف وقع في القبضة … ما تزال تلك المشاهد مسجلة محفوظة متراوحة بين كتاب العبر وشماتة من لم يشمت …
ـ حافظ الأسد وسوريا كلها من ورائه … انتقل بها من جبهة الصمود إلى قافلة حريم جورج بوش الأب ثم الإبن فماذا جنى؟ … وما حال سوريا بعد كل السنين من الانبطاح والتواطؤ والاشتراك في طعن شعب شقيق تحت طائفة من الذرائع بعضها أغرب من بعض؟ … نصف السوريين الأعزّاء اليوم مشردون في أركان العالم الأربعة، وأغلبهم عرضة لسموم أحزاب اليمين الأوروبي والغربي، ولمطاردات البوليس المجري الذي يعاملهم على حدوده معاملة المهربين الخطرين وتجّار المخدرات …
ـ السعودية التي احتضنت كل ذلك وأعطت الأرض والمال والتبرير السياسي والديني لكل ما فعلته وتفعله الأساطيل الأمريكية في المنطقة … أين هي الآن؟ … أصدروا في البداية قانونا (قانون جاستا سيء الذكر) يصنّفها ـ عمليا ـ دولة إرهابية ويشبعها ابتزازا حتى أخر قطرة بترول وآخر ورقة بترودولار … وبعد ذلك ورطوها في قضية ذلك الصحفي الشهيرة وقالوا في مسؤوليها ما لم يقله مالك في الخمر … وتلاعبوا بها مرة ضد إيران ومرة معها في “فالز” سياسي ودبلوماسي متقلّب من أعجب ما يكون … وفي النهاية ها هي تنشد السلامة وتذوب نهائيا في منطق غربي أطلسي عند التعامل مع قضية فلسطين وأية قضية أخرى … ولا أحد يضمن لها أمانا في قادم السنوات …
ولن أطيل في أفراد بقية الجوقة البائعة، فمنهم من دفع “كاش” ومنهم من يداري خيبته ويزيد في الهروب إلى الأمام ولكنه عارف قبل غيره أن المصير المحتوم قادم لا محالة …
والسؤال الذي يلحّ هو: ماذا بقي رابطا بين هؤلاء؟ وماذا بقي جامعا بين تلك الدول وهي في كل مرة تتبرأ من بعضها البعض؟ وبالذات ماذا بقي من معنى لجامعة الدول العربية؟ … هذه المؤسسة التي قامت بإرادة وزير الخارجية البريطاني “أنطوني إيدن” ذات نهاية حرب عالمية ثانية … كان اللوم عليها لسنوات طويلة بأنها “تغالي” في مطالبها (الناصرية) حول الصراع مع محتلّي فلسطين، وكاد رئيسنا بورقيبة ينسحب منها ذات ستينات … واستمر ذلك تقريبا إلى حين موقفها القاطع من اتفاقيات كامب ديفيد، وهو آخر موقف “مشرّف” اتخذته تلك الجامعة … وبعد؟
وبعد ذلك دخلت مرحلة الفصل بين القول والفعل … وكلنا يذكر قمم التنديد والشجب التي لا يعقبها شيء إلى درجة صار ممكنا التكهن بقراراتها حتى قبل انعقادها … ومنها واحدة عشناها في مشهد فولكلوري مضحك قدّمه الراحل معمر القذافي على قناة الجزيرة ذات سنة، بل ذات قمة طارئة …
بعد ذلك … لم يعد ممكنا حتى الشجب، فالأمريكان أصبحوا يتضايقون من كلمة “تتنطوَر” هنا أو هناك وقد تتداولها الفضائيات والمواقع الاجتماعية، وتصبح في الشارع العربي (وشارع الجاليات المهاجرة) ككرة اللهب … فأصبحت تتعامل مع بياناتهم كما يتعامل رؤساء التحرير (ووزارة الإعلام) مع مقالاتنا في الثمانينات والتسعينات … صنصرة هذه الجملة وتلك الكلمة وذاك الحرف، وإلا كسرت قلمك وقطعت لسانك … وهكذا صارت تصدر البيانات حذرة معوّمة منظّفة من أي سوء …
وفي آخرة المخاير لم يعد ممكنا حتى الحياد … بل صار مطلوبا منك أن تعطي ورقة الجامعة العربية بيضاء إلى مستشاري البيت الأبيض، فيكتبون عليها ما يشاؤون وأنت فقط تضع إمضاءك … ومنذ سنوات لم تعد هناك أية إشارة إلى عدوّ أو محتلّ … وفي البيان الأخير هاهم وضعوا “طرفي النزاع” على نفس المستوى، وغدا ربما تعود لغة التنديد والشجب ولكن في اتجاه معكوس … وستطال سهامه كل من يقاوم أو يعترض أو يسمي مجرد الاحتلال …
باختصار … جامعة العرب ماتت منذ زمن ولم يعد بقاؤها سوى تقليد رمزي مثل وضع باقة سنوية على قبر الجندي المحهول … ولكن … هل مات معها هذا الشارع العربي الهادر في مدنه وفي أي مكان من العالم؟ وهل اختفى أحرار في الدنيا يذكّرونك بقضاياك كلما نسيتها؟ وهل اندثر خصوم ألدّاء يذكّرونك هم أيضا بأصلك وجنسك وثقافتك ولونك وتاريخك مرفوقة بأقذع الشتائم لأقلّ انفعال منهم أو احتكاك معهم؟ مهما هادنتهم ونافقتهم وحاولت الاندماج والذوبان فيهم …