الكليشيه الاجتماعي هو صورة نمطية وكاريكاتورية جامدة حول شخص أو واقع ما، وهو حسب علم النفس الاجتماعي فكرة مسبقة أو رأي ناجز يتناقله الناس دون أدنى تفكير، إضافة إلى أن مقاومته عادة ما تكون عسيرة جدا لأن “تفتيت الذرّة أكثر يُسرا من تفتيت فكرة مسبقة” كما يقول إينشتاين…كأن تقول الفتيات أقل مهارة في الرياضيات مقارنة بأقرانهن الذكور أو أن طب النساء لا تتخصص فيه ولا تُجيده إلا النساء !
قم للمعلم وفّه التبجيلا، كاد المعلم أن يكون رسولا:
ظل المعلّم (بمعنى الشخص المسؤول عن توزيع المعرفة) لمدة قرون هو الوسيط الوحيد لنيل المعارف وولوج عالم القراءة والكتابة السّاحر و”تحريك العقل البشري عن طريق التفكير” كما يقول الفلاسفة، لكن مع تعدد الوسائط في العصر الحديث وتنوعها بل وانفجارها في كل ربوع الدنيا، تضاءل دور المعلم وأصبح يحلو للبعض مناداته بالميسّر والمسهّل والوسيط والمُرافق … والمعلم “معلّمون” أيضا يتغيّر ملمحهم الشخصي والمهني ويتفاوت أداؤهم بين موقع وآخر. فقُدسيّة مهنة التدريس ونُبلها لا يجب أن تجعلنا نغفل عن هذا المعلم المختص في الاتّجار بالمواشي ويأتي مُسرعا صباحا وقد عاد لتوّه من “رحبة السّعي” على متن شاحنته ورأسه خالية تماما من شيء اسمه البيداغوجيا الفارقية أو البيداغوجيا التعاقدية أو الاستراتيجيات الديداكتيكية…أو ذاك الأستاذ الذي يعاقب تلاميذه لتمسّكه الأرعن بأن “اليهودي لا يمكن أن يكون عربيا”… وبعض الجامعيين الذين يتعاملون مع الكليات وكأنها “ساحة صيد مُغلقة…تسهل فيها عمليات القنص”. (وكلها أمثلة عايشتها شخصيا).
رأفة بفلذات أكبادنا:
هناك مُسلّمات لا تستدعي عناء تفكير أو قوّة تدبير من قبيل احترام ذات المتعلّم وصوْن كرامته والامتناع عن الإساءة إليه وبذل كل الجهود من أجل عدم تركه على قارعة المعرفة وكل ما تُتيحه المدرسة من نضج واكتمال على مستويات عدّة… أما أن تتحوّل هذه الأبجديات إلى منهجية للمرونة الزائفة والتحنّن في غير موضعه باسم ما قال سقراط ذات يوم ” كيف تطلبون مني أن أعلمه وهو لا يحبني؟”، فذلك أمر لن يؤدّي حسب اعتقادي إلا إلى تحلّل العلاقة بين المدرسين وجمهور المتعلّمين وتفسّخها لأن جدية المدرس واستبساله وذوده عن دوره في السّحب نحو أعلى درجات الاقتدار المدرسي والشخصي، لا بدّ أن يقابله نفس مستوى الجدية من قبل التلميذ والانضباط (الواعي والمتوازن وغير المطبوع بالخوف) والجهد النابض عناءً من أجل اكتساب المناعة الضرورية في وجه إغراءات العالم الموازية بشتى أنواعها.
الهواتف الذكية وسيط ثقافي.
شاهدت في عديد المناسبات أمهات تعِدن أبناءهن (الذين لم يتجاوزا سن الخامسة أو السادسة) بتمكينهم من حصة لعب بالهاتف الجوال إن هم قاموا ببعض الواجبات المنزلية، وواضح أن كل التلاميذ تقريبا من الإعدادي إلى الثانوي بحوزتهم أحدث ما صنّعته شركات الهواتف الذكية… ويُعلل الجميع الانخراط في هذه الموجة الاستهلاكية العارمة (حسب الهيئة الوطنية للاتصالات هناك 6 تونسيين على عشرة يمتلكون هاتفا ذكيا في 2020) بأنه مصدر للترفيه والمعرفة والثقافة.
والغريب أن الشاب التونسي بصورة عامة عندما تعترضه كلمة لا يعرف معناها أو بلدا لا يعرف عنه شيئا أو ظاهرة اجتماعية كُتب عنها الكثير، لا يكلف نفسه عناء “غوغلتها” والإبحار في مكتبة إنسانية بحجم الكون…لأن ذلك فيه تعب وجهد وقد يُعيقه عن التواصل مع أقرانه العازمين على اقتراف غوغلة من طراز آخر… يعتقد الكثيرون منا أن الهاتف الذكي وسيلة متطورة للتعلم واختصار المسافات وربح الوقت (وهو أمر صحيح) ولكنه قد يتحوّل في مناخات تُربّي على بذل الجهد الأدنى والانجرار وراء المُتع العابرة، إلى أداة لإنتاج الحُمق والبلاهة. فينقلب لدى البعض من شبابنا من وسيط إلى سفسوف ثقافي. رقام
الأطفال أبناء بيئتهم:
من البديهي أن كل بيئة تُنتج ثقافتها وكل محيط اجتماعي يُفرز مُمكناته الموضوعية أو ما يُسمّيه السوسيولوجيون بالحتميّات، وبالتالي فإن جيوب النجاح المدرسي على سبيل المثال تكون مقتصرة على جهات وأوساط بعينها وكذلك دهاليز الفشل والانكسار تُوطّن في عائلات وأقاليم معيّنة… هذا صحيح ولكن الانتباه إلى النجاحات المُحقّقة هنا وهناك في مناخات قاسية ومعادية والاشتغال عليها لمعرفة العناصر التي أسهمت في جعل “القدر يستجيب رغما عنه”، أفضل وأنفع وأكثر إيجابية من النحيب والعويل في وجه التهميش والتفقير (مع عدم التقليل من أهمية مقاومتهما). الشابة التي أحرزت أفضل معدل في باكالوريا 2021 وهي المنتمية إلى جهة لم يتطور مؤشر التنمية فيها منذ 30 عاما والشاب الذي فشل في تخطي امتحان الباكالوريا بعد ثلاث محاولات وهو المنتمي إلى جهة تتصدّر الترتيب الوطني في كل الامتحانات… نماذج تعنيني كثيرا شخصيا لأنها دالّة وفهمها له قيمة علمية مضافة أكثر من التعميمات المكمّمة التي تأبى البوح بالتفاصيل والجزئيات الدّالة.
الريف ليس مُرادفا للطابونة والدجاج العربي:
الريف بالنسبة إلى أهل مدننا (المريّفة هي الأخرى دون علمها) هو فضاء مجرّد ومنزوع العلاقة مع متساكنيه بمشاغلهم وثقافتهم وتراثهم وعلاقتهم المختلّة بالدولة المركزية… وخاصة هو فضاء هُلامي يطيب فيه العيش ويقترن بكل ما هو نقي وأصيل ومنكّه مثل خبز الطابونة والدجاج العربي والخضر الطازجة والناضجة دون مداواة وزيت الزيتون من رحاه وخروف العيد بطيب طعمه وشذاه. بينما ما يغيب عادة عن مخيال هؤلاء أن الريف هو أيضا عنوان لبرد قُطبيّ يُشلّ نعمة الحلم ليلا وأطفال يُقضّون ستّ سنوات في الابتدائي بمعلمين مُعوّضين مبتدئين لم يتعلموا خلال دراستهم الجامعية المبتورة سوى بعض مبادئ تقنيات اللفّ أو المكننة الفلاحية، والريف أيضا هو إحساس بالدونيّة لأنه مُقصى من دوائر البهاء والبهجة من سفر وملبس وأكسسوارات وأطباق تُربكه أسماؤها، كذلك شباب هذا الريف الحزين لا يُتاح له عيش مراهقته وإدراك مورفولوجيا الأشياء إلا من خلال ما يعاينه خلال مواسم اللقاح لدى الحيوان.