“إذا أردت أن تهدم دولة، أن تهدم حضارة، فقل سأقطع مع الماضي وأبدأ” (محمد أحمد القابسي ـ برنامج أولاد التلفزة ـ حلقة ملعونة)
نشرت
قبل سنة واحدة
في
لا يزال لقاء رئيس الدولة بمديرة التلفزة الوطنية يثير حبرا ونقاشا ولغطا من كل الجهات تقريبا وكيف لا يفعل ذلك؟ … فالكلام الذي قيل فيه ـ ومن جانب واحد ـ له أكثر من معنى، وربما يؤشر لسياسة رسمية سواء في التعامل مع الإعلام أو في تناول تاريخ البلاد …
في البداية، لا بد من التوضيح أننا لسنا مع شيطنة كل ما يقوله أو يصنعه الرئيس، ولا يعنينا كثيرا هذا الصراع بينه وبين جبهة مّا، بل ونسخر طولا وعرضا ممن كذبوا مرتين … مرة حين مدحوه حتى التخمة، ومرة ثانية حين انخرطوا في ذمّه حتى التخمة أيضا … أقول هذا الكلام عن قيس سعيّد مثلما أقوله عن الخمسةرؤساء الذين سبقوه، وعن الذين سيأتون بعده … فلا شيطنة لأحد، ولا قدسية لأحد، خاصة إذا نظرنا إلى بلاد يمتد عمرها على ثلاثين قرنا وأكثر، عرفت خلالها زعماء وقادة وملوكا وأباطرة فيهم حتى من غزا شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وفيهم من امتلك البحر المتوسط، وفيهم من اقتسم العالم بالتساوي مع قوى أخرى … وفيهم أيضا من خان وباع وانبطح ووضعنا تحت كلكل هذه القوة الأجنبية أو تلك …
كلهم الآن راحوا في ذمة التاريخ أو في ذمّة خالقهم، ولكن الباقي هو هذه الرقعة المباركة من الأرض، وشعبها المديد الذي يختصره الأغبياء في البضعة ملايين بائس المحيطة بنا … والتي قصارى أملها أن تعبر البحر ولو سباحة إلى إيطاليا وتشتغل هناك حتى في جمع القوارير البلاستيكية … هذا شعب مرحلة، مثلما أولئك مسؤولو مرحلة لا أحد يعلم كيف سيكون ويكونون في المستقبل مع تقلبات الزمن …
انتهى التوضيح الطويل … إذن استقبل الرئيس السيدة عواطف الصغروني مديرة التلفزة ووجه إليها خطابا بل “مونولوغا” (كعادته) كانت تقابله بوجه جامد وعينين ثابتتين ثبات من يتلقى توبيخا أو إنذارا أو حكم محكمة … و لاغرابة في ذلك، فالكلام كان تعبيرا عن عدم رضى بل عن سخط شديد على أداء مؤسسة التلفزة … وفيه تلميحات قريبة جدا من التصريح، واتهامات مباشرة تمس المؤسسة ومديرتها والعاملين بها… وفيه أيضا تعريض وتشهير بمن حكموا البلاد قبل هذه اللحظة، كلهم لا استثناء، مع أوصاف هجومية ونعوت لم يسلم منها تقريبا أحد مهما كبر أو صغر … وتَعمّم ذلك بشكل يجعلك تقول كانت تونس طول عمرها تعيش في الظلم والظلمات … ولم يزرها العدل والنور إلا هذا اليوم …
كثير، كثير … فرغم أننا لا نؤمن بقدسية من حكمونا، إلا أن الإنصاف يقتضي أن نميّز بين الخطإ والإنجاز، بين الخسارة والمكسب، بين الهدم والبناء، بين القرار السيّء والقرار الصائب الذي ترك لنا إرثا جيّدا … يا سيدي بداية من تأسيس التلفزة نفسها، كوسيلة إعلام رافقت الرئيس في حملته الانتخابية التي صعد بها، وأعطته الفرصة كمنافسيه لكي يقدم نفسه للناخبين، وعرّفت به وقبلها لم يكن أحد يسمع باسمه … هذه التلفزة التي بعثها للوجود رئيس أسبق، ودعّم وجودها رئيس سابق، والآن يطعن في كيانها وعملها وعامليها رئيس حالي …
توضيح ثان … لم أكن راضيا طول عمرى رضى كاملا عن أداء تلفزتنا الوطنية وبرامجها، وقد أخذ مني ذلك قرابة الأربعين سنة ولكن … ولكن النقد شيء والنسف شيء آخر … أخطأت تلفزتنا كثيرا ولكنها في المقابل أمتعتنا وأفادتنا كثيرا أيضا، وخاصة في المرات التي تُركت فيه لشأنها دون تدخل أو ضغط أو ضرب أو حرمان … وآية ذلك ما حدث مباشرة بعد جانفي 2011، حيث اجتمع الصحفيون وراجعوا الخط التحريري بمهنية بعيدا عن حشر السياسة أنفها في عملهم … وأصبح المواطن همّهم الأوّل قبل رجال الحكم واستقبالات الحكومة … كانت فترة مزدهرة صالحت المشاهد مع إعلامه العمومي ودامت بضعة أشهر … قبل أن يهجم عليها برابرة لطفي زيتون، ويحاصروها حصار المغول، ويفرضوا عليها ما يشبه معاهدة باردو …
ها أننا رجعنا للتاريخ … غضب الرئيس على ما يبدو كان من برنامج عنوانه “أولاد التلفزة” يتعرض لذاكرة المؤسسة إنتاجا وأشخاصا وظروفا وغير ذلك مما يتم عرضه في مثل هذه البرامج … وليلتها كان الضيف المدير السابق عبد الحفيظ الهرقام، أما الفترة فكانت بين سنتي 1991 و1997 حين تولى مهامه على رأسها … هي والإذاعة … شهدت الفترة تأسيس القناة الثانية، وإذاعة الشباب، وإذاعتين جهويتين بالكاف وقفصة … كما شهدت إنتاج أعمال بقيت بصمة خالدة في تاريخنا السمعي البصري، وأعطت الفرصة لوجوه شابة صارت اليوم من النجوم وفيهم من يحتل الشاشات العربية الكبرى … فأين الخلل، وأين “اللصوص” الذين تطرق لهم الرئيس؟
هل اللصوص مثلا هم ضيوف البرنامج ليلتها؟ هل اللصوص هم عبد الحفيظ الهرقام أم حمادي عرافة أم مختار المستيسر أم مختار العبيدي أم محمد أحمد القابسي؟ أم مقدمة البرنامج بسر الصحراوي؟ … هل اللصوص هم صالح جغام أم الصادق بوعبان أم دنيا الشاوش أم محمد عبد الكافي أم صلاح معاوية أم عبد العزيز قاسم أم رؤوف يعيش أم محمد الغنوشي أم صدّيق القطاري أم غيرهم من الأسماء التي ذُكرت ليلتها، موتى وأحياء؟
ثم ودون دفاع عن أحد … هل اللصوص هم من أنتجوا ملحمة تونسية بالغة الروعة مثل “الخطاب ع الباب” بميزانية تنفقها بعض قنوات الخليج على نشرتها الجوية اليوم؟ هل اللصوص من يحشرون قناتين تلفزيتين وثلاث إذاعات (وقتها) ومصلحة تيليتكست وآلاف العاملين … في بناية لا يزيد حجمها عن حجم مصحة من مصحات المركز العمراني الشمالي … المرخص لها والمدعومة بعد 2011 على حساب مستشفياتنا ومؤسساتنا العمومية؟
وقد شطح بي الخيال قليلا فرأيت في ما يرى المتخيّل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يستدعي إلى مكتبه مديرة مؤسسة “فرانس تليفزيون” (التلفزة العمومية هناك) ليحاسبها على برنامج شبيه بـ “أولاد التلفزة” (بل هو الأصل) يبثونه هناك … وإذا كان برنامجنا لا يتجاوز البضعة أشهر، فالنسخة الأصلية الفرنسية تذاع منذ 1994 وتغطي رحلة التلفزيون الفرنسي طيلة 74 سنة … وهنا، تصوّرت الأخ ماكرون ينهال على المديرة السيدة “إيرنوت” (هذا اسمها) بوابل من التوبيخات لا على العودة إلى عهد رئيسين يتيمين، بل إلى ما لايقل عن تسعة بالتمام والكمال بين الجمهوريتين الرابعة والخامسة … مع العلم بأن في هؤلاء من حدثت في عصره جرائم، بل مجازر، وفضائح جُلّى، وأزمات خانقة، وانتفاضات، وهزائم، بل وحتى قضايا فساد وأحكام باتة بالسحن …
ولكن الخيال لا يجنح بعيدا … فمجرد التفكير في فعل كهذا لا أظنه يراود ذهن ساكن الإليزيه الراهن … لأنه بقطع النظر عن الطامّة التي ستحدث من صحفيي المؤسسة تضامنا مع رئيستهم وحمية على مهنتهم، ومن جمهرة وسائل الإعلام يمينها ووسطها ويسارها، ومن مجتمع مدني حقيقي، ومن مجتمع سياسي أنزه مليون مرة رغم هناته، ومن برلمان هو الأكثر تمرّدا في العالم منذ 250 سنة … بغضّ النظر عن هذا، فإن السيد ماكرون يجد أمامه على الدوام قرارا قصيرا ولكنه حاسم أصدره الجنرال ديغول ذات ثورة عليه: “لا يمكن إيقاف فولتير” …