دفءُ نار

لا صوت يعلو فوق صوتها… فلسطين

نشرت

في

أعترف أنني اشتغلت عدة ساعات هذا الأسبوع  على موضوع المتلازمات النفسيّة في علاقة بالمزاج التونسي اليوم من أجل إعداد مقال الاثنين، ولكن أمام حرب الإبادة التي تشنّها قوات الكيان الصهيوني ضد شعبنا في فلسطين وأمام معركة الجذور في القدس الشرقية، ذوت كل المواضيع الصغيرة وتعالت أصوات مكمودة بداخلي تحُثّني على تخصيص مقال هذا الأسبوع لأمّ القضايا.

<strong>منصف الخميري<strong>

سأكتب عن فلسطين ولكن ليس من زاوية التعبير عن المساندة والتضامن والتنديد والتشهير لأن ذلك أمر طبيعي ولا يستوجب حتى مجرّد الكتابة فيه حسب نظري، ولكن من زاوية استرداد بعض الصفحات من الذاكرة بدأ يلفّها النسيان (المتعمّد في كثير من الأحيان) لم يعرفها جيل اليوم رغم أهميتها الاستراتيجية ودورها المفتاح في فهم واقع اليوم… مساهمة متواضعة منّي في إطلاع جيل الهاشتاغ والتحركات الضروس على مواقع التواصل على محطّات كبيرة عاشها جيلي بكامل وجدانه ومهجته وطاقاته النضالية والإبداعية.

أقول في البداية إن هذا وباء الكورونا الذي نعيشه راهنا والذي يحصد كل يوم  أرواحا عزيزة علينا لا يساوي شيئا أمام ضراوة الوباء الصهيوني الذي اجتاح فلسطين في منتصف القرن الماضي لا فقط لأنه اغتصب أرضا  من ساكنيها الشرعيين بتواطؤ من العالم أجمع بل كذلك (وربّما خاصة) لأنه يشكل أبشع عار سيظل محفورا على جبين الانسانية على امتداد قرون طويلة أخرى. كيف تمكّن العالم في لحظة تاريخية مارقة أن “يُملّس” شعبا غير موجود تاريخيا بواسطة شتات طين يهودي تمّ تهجيره قسرا من البلدان العربية وأثيوبيا وأوروبا وروسيا وبولونيا ومن كل أصقاع العالم ثمّ يهبونه أرضا بها زيتون يتكلم العربية وينضح فلسطينية منذ آلاف السنين ؟

ثم تذكرت الدور التاريخي الذي لعبته منظمة التحرير الفلسطينية التي ظلت لسنوات عديدة عنوانا لوحدة الموقف الوطني الفلسطيني ميدانيا في مواجهة جيش العدو ودوليا في كسب التأييد الأممي لأعدل قضية في التاريخ وأكثرها تعقيدا في نفس الوقت. م.ت.ف هذا الصرح الفلسطيني العملاق الذي ضمّ شتات المقاومة بكل فصائلها وتوجهاتها وسلاحها … إلى أن وقع تخريبها من الداخل وذهبت ريحها وأصبح الفلسطيني يذبح أخاه الفلسطيني تحت الأنظار الشامتة لمن كان يعتبر البارحة عدوّا مشتركا.

وتذكرت آلاف المقاتلين العرب والأجانب الذين توافدوا على لبنان في اجتياح بيروت سنة 1982 وقبلها لحماية الشعب الفلسطيني ضد آلة البطش الصهيونية وعملائها الطائفيين… قبل أن تدور الدوائر ويصبح العرب مُصدّرين للمقاتلين بالآلاف للإطاحة بالنظامين السوري والليبي اللذين كانا تقريبا الحضن الوحيد الذي آوى المقاومة ودعّمها وشكّل ملجأ لمقاتليها ومناضليها الملاحقين.

وتذكرت احتفالات حركة حماس في قطاع غزة بانتصارها على الكيان الصهيوني، عفوا بطرد حركة فتح وباقي القوى الوطنية الفلسطينية وإطلاقها الوعود بتأسيس الإمارة الاسلامية الفلسطينية التي ستحرر الأقصى… بعد حملات الاعتقال والقتل والتشريد التي طالت كل من ثبت انتماؤه لغير الفصائل الدينية. ثم وفي سياق نفس التوجه نزلت نفس هذه الفصائل بمقاتليها إلى مدن سوريا وقراها للمساعدة في كسر شوكة نظام الأسد “الطائفي” في انسجام تام مع توجّه الحركات الاخوانية التي اعتلت سدة الحكم بعد 2011.

وتذكّرت أن أجمل العناوين والأسماء في بلادنا العربية كانت فلسطينية : في المقاومة المسلحة وفي السياسة وفي الموسيقى وفي الأدب وفي الشعر … وهل ثمة أكثر سحرا وإدهاشا من أسماء مواقع فلسطينية من حيفا ويافا وبيسان وجنين وطولكرم ؟ وهل كتب الروائيون كما كتب إيميل حبيبي وغسان كنفاني وجبرا ابراهيم جبرا ويحيى يخلف وفيصل دراج ؟ ومن في العالم لم يتذوّق نكهة شعر محمود درويش وفدوى طوقان وسميح القاسم وتوفيق زياد وكتب المفكر والناقد إدوارد سعيد ؟

وتذكّرت أن المثقف العربي اليوم أيْ في زمن الجزر وتسليع الكلمات وانتعاش ألوية التفاهة يكون له وجها مكفهرّا…ولكن يتناسى الجميع أنه كان هناك مثقف آخر ومختلفا عرفه التاريخ العربي الفلسطيني. إذ كان على سبيل المثال الشاعر عبد الرحيم محمود يجمع كلماته ورصاصاته في كيس واحد ويذهب الى المعركة طليقا ولا يعود، ليكون شهيدا عالي الصوت في تاريخ الثقافة الفلسطينية.  أما غسان كنفاني فكان وفيّا هو الآخر لصورة المعلّم النبيل الذي رسمه في “رجال في الشمس” والذي لم يكن يُحسن الطقوس الدينية بقدر ما كان يُجيد استخدام السلاح وكان على كنفاني الذي مَجّد البندقية المسؤولة أن يذهب في خياره إلى مداه الأقصى ليلتحق بالشاعر الذي ذهب الى المعركة ولم يعد.

وتذكّرت التصريح المُدوّي لجورج حبش في أحد المجالس الوطنية الذي يقول فيه (تقريبا) “بعد سقوط الهتلرية وتراجع الاستعمار، ظلت الفاشية فاعلة هنا وثقيلة اليد هناك. والآن يحمل الفلسطيني حجره الكريم ليرجم القلعة الصهيونية، أي ليساهم بدوره الانساني العظيم في هزيمة الفاشية القديمة والمتجددة.” كمؤشّر على أن القيادات التاريخية للثورة الفلسطينية كانت مُدركة لطبيعة العدو الصهيوني الذي أمامها تمام الإدراك معتبرة إياه جزء من مشروع عالمي ذي طابع سياسي استعماري واستيطاني قبل كل شيء.

وتذكّرت مجموعات الطلبة الفلسطينيين المُسجّلين بالجامعات التونسية في إطار اتفاقيات التعاون بين منظمة التحرير والنظام التونسي والمنتمين في أغلبهم إلى الفصائل الفلسطينية المناضلة وكانوا جادّين في دراستهم ولكن حريصين في نفس الوقت على المساهمة الفعّالة في سائر التظاهرات التي تنظم هنا وهناك خاصة في المناسبات الكبرى مثل ذكرى انطلاق الكفاح المسلح الفلسطيني  ويوم الأرض ويوم الأسير… حتى خلفهم بعد 2011 طلبة فلسطينيون آخرون مختصون في حفر الأنفاق وتدريب بعض التونسيين عسكريا في اختصاصات متنوعة مثل التفخيخ والتفجير والتنصّت ومراقبة الخصوم.

وتذكّرت أخيرا أن كلمة “الشهيد” هي الكلمة الأكثر تداولا في لغة شعب فلسطين…

فالمجد لقوافل شهداء فلسطين والعِزّة والخلود لشهداء تونس وكافة شهداء الأمة العربية الذين تعدّدت مواقع قتلهم لكن صاحب الرصاصة واحد ومن دفع ثمنها واحد ومن صفّق وابتهج لإطلاقها واحد.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version