تعيش أغلب العائلات التونسية هذه الأيام على وقع تسلّم “الكرنيات” وبطاقات الأعداد (قريبا) والتعرّف على مستوى المحاصيل بعد ثلاثية مدرسية هادئة وبعد سنة خلَتْ أربكتها إجراءات الحجب من الجانبين : حجب الأعداد من جهة وحجب الأجور من جهة أخرى.
وتقديري أن حُمّى الأعداد والرّتب المتحصّل عليها تعكس – على الأقل في الجانب النقيّ منها- إيمانا صادقا بمصعد المدرسة ونُبل المعرفة وحرصا على ضمان المناعة لبناتنا وأبنائنا واستثمارا مُكلفا جدا في ما “ينفع الناس ويمكُثُ في الأرض”.
ويبدو أن قصة “الكرني” تقليد تونسي صرف يكاد لا يخلو منه بيت تونسي واحد، لكن تتنوّع أشكاله وأحجامه ومآربه حسب مجال الاهتمام الذي يختصّ به.
فهو “كرني” للكريدي (أو السّوالات) يحتفظ به عطّار الحومة أو حوانتي الدوّار لتدوين المشتريات غير المُسدّدة في انتظار جرايات آخر الشهر أو حلول فترة ما بعد “الكَشْطة”، أي انتهاء المزارعين من جمع محاصيلهم من الحبوب أو الزيتون وغيرهما.
وهو “كرْني” للعلاج يتلوّن بالأبيض أو الأصفر حسب مستوى احتياج الفئات الاجتماعية الهشّة والتعريفة الواجب تسديدها من دونها في المؤسسات الاستشفائية العمومية، وتشقى في سبيله الأرامل والفقيرات الحوامل ويستعمله بعض أصحاب القرار في فرض الهيمنة وتأبيد الولاء. كما يمكن أن نُدرج ضمن هذا الصنف “كرني” التلاقيح الذي أنقذ حياة آلاف الأطفال التونسين خلال فترة قاتمة في تاريخ الشعوب.
أو هو كذلك “كرني” للعناوين وأرقام الهاتف قبل مجيء الأجندات الإلكترونية. كان جيل الستّينات والسّبعينات – في غياب القواميس ومحركات البحث المعاصرة – يخصص “كرنيات” يُحتفظ في طيّاتها بتفسير الكلمات الصعبة والتواريخ المهمة وأبيات الشعر الجديرة بالحفظ وبعض قواعد اللغة صعبة المِراس مثل العدد والمعدود ولام الجحود ولام التعليل في العربية، أو الجذور الاغريقية واللاتينية للكلمات في اللغة الفرنسية الخ… ويُذكر في هذا الخصوص أن “كرنيات” شهيرة في التاريخ اقترنت بمجد أصحابها مثل الكرني الأحمر لداروين أو كرني المولسكين لهيمينغواي أو كرني المحقّق لكولمبو.
ومن ضمن هذه “الكرنيات” كلها، هنالك واحدٌ يُمكن أن نُطلق عليه لقب “الكرني المقدّس” لأن الجميع ينتظره ويخشاه والأمهات خاصة تُثمّنه وترعاه ولا يهمّهنّ كثيرا ما يُدوّنه المعلمون والمعلمات من ملاحظات وتقييمات. تتجه الأنظار يوم تسلّمه والأيادي ترتعش إلى الطابق السّفلي فيه حيثُ تسجّل المعدلات والرّتب. تتوقّف في هذه اللحظة المصيرية عقارب الساعة عن الدوران حتى تفسح المجال لدوران الرؤوس وتعكّر النفوس، فإما أن ينهالوا على صاحبه أو صاحبته بالتقبيل والعناق مُرتّلين أجود لوائح المديح والثناء من قبيل “يعطيك الصحة وتبارك الله على بنتي وان شاء الله في الباكالوريا والدكتوراه” أو يتمّ الانقضاض عليه (خاصة إذا كان ولدا كثير اللعب جزيل الصخب) ليُكيلوه ما لذّ وطاب من العتاب والتشهير كأن يقال له “خلّيت كان الحيط وراك في قسمك يا ضايع يا رخيص أندادك… والله لا عاد تشوف فرنك مصروف من عندي…”.
كتبَتْ منذ يومين إحدى الأمهات التدوينة التالية :
“والله اليوم بنيّة تقرى مع بنتي جابت 17.65 وجات الثانية في القسم، أمها عطاتها طريحة نبّاشة القبور قدّام المدرسة وقدّام التلامذة الكل خاطر ماجاتش الأولى ولوّحت الكرني قدام المدرسة وبدات تعيّط وتدعي على المعلمين…”.
موقف طريف وحزين في نفس الوقت : طريف لأنه أشبه ما يكون بالكاريكاتور واللقطات المُضخّمة والمرحة في السينما الساخرة، وحزين كذلك لأنه يعكس عقلية كتيبة واسعة من الأمهات التونسيات اللواتي تسكنهنّ نزعات التّفاخر الأجوف و”التفوّقيّة” والغلبة والأسبقيّة والاعتقاد المُجانب لحقيقة التميز بأن الرتبة الأولى هي الرتبة الوحيدة الناجية من شبح الفشل … في تماه عجيب مع المثل العامّي المكرس لقيمة الاستئثار وحب الذات “خوذ بايك مالأول حتى من ضرب الدبّوس”.
يقول الرسام السريالي سلفادور دالي “ما أتألّم له عندما تحيد القطارات عن سكّتها، هو ضحايا الدرجة الأولى”. والمدرسة هي قطار الجميع بصرف النظر عن الرّفاه (اللوجستي أو البيداغوجي) الموزّع في غير عدل بين العربات والدّرجات، وهو محمول على المضيّ بسلامة وثبات نحو منتهاه المعلوم سلفا مع الالتزام بإيصال كل راكب إلى المحطّة التي اختارها لنفسه والتي له فيها مآرب جالبة للسعادة بنفس مستوى الوهج كما في باقي المحطات الأعلى … أو أكثر.
أصبح من المتعارف عليه أن أساليب التقييم الحديثة تجاوزت عُقدة “أوّل أوائل القسم” لأن العدد والرتبة لا يعكسان لوحدهما مستوى التميّز لدى الطفل بل لا بدّ أن يتضافر ذلك مع جملة من المؤشرات الدالّة الأخرى مثل الدافعية والاهتمام والقدرة على ما يسمى بـ “فهم المفاهيم” والمهارات الاجتماعية مثل التعاون والتواصل وفض النزاعات والتفكير الخلاّق والاستقلالية والمواظبة واكتساب “مهجة المعرفة” والمسؤولية والتوازن بين الحياة المدرسية والحياة الخاصة، إلخ. هذه الجداول الفرعية والموازية (وغير المُقيّمة بتاتا كذلك) هي التي تصنع في النهاية صرح شاب الغد الذي لن يُشهر رتبته المدرسية الأولى أو الثانية في وجه تعرّجات الطريق التي ستعترضه، بل ذكاءه الذي صقله عبر السنوات وحِنكته التي راكمها عبر الأزمات وكذلك قدرته على تحييد المعطّلات المختلفة ومراوغة فِخاخ “متصيّدي الرؤوس الذكية” في كبرى شركات العالم.
إن أغلب المعدّلات والرّتب تُصنع في قسم واحد وضمن مجموعة صغيرة واحدة بما يجعل أن ترتيبا جيدا في مربع ضيق تحكمه اعتبارات تربوية وغير تربوية أحيانا، لا يمكن أن يكون ضمانة حقيقية لجودة مستوى التكوين… وإلا سقطنا في قول الشاعر دي موسّيه “أُفضّل مثل قيصر أن أكون الأول في قريتي من أكون الثاني في روما” !
أيّ ثناءٍ على المتفوّقين ؟
من المؤكد أن الرّتبة داخل الفصل الدراسية لا تتوفّر على أية قيمة بيداغوجية في حدّ ذاتها إلا إذا حتّم التناظر اصطفاء عدد معيّن من المترشّحين في مجال ما، لذلك تمّ تعويض الدّرجات في عديد الأنظمة التربوية بملاحظات تقييمة عامة تكون الغاية منها إبراز مواطن التميّز والقُصور عند كل تلميذ من أجل الترصيد في الحالة الأولى أو الدّعم والعلاج في الحالة الثانية.
اعتقادي أنه قد حان الوقت في مدرستنا التونسية للإقلاع عن الرؤى البهيميّة التي تعتمد على مقاربة “العصا والجزرة” والتخلي عن الثناء المبالغ فيه المُرفق بإدانة غير مقبولة لأصحاب المراتب الأدنى.
كما لا يمكنني وضع نقطة نهاية لهذه الورقة دون التعرّض إلى نوعية الملاحظات التي يخطّها المعلمون والأساتذة على “كرنيات” وبطاقات أعداد التلاميذ التي لا يجب أن تكون حسب نظري “ملاحظات كسولة” (حسن ومتوسط وكسول لا يعمل) ولا يجب في نفس الوقت أن تغرق في الابتذال الشعبوي الأقرب إلى التنمية البشرية درجة عاشرة من طراز “أحسنت يا بائع الكلمات” أو”كم أحبك يا بطل القراءة” أو كذلك “أحسنت يا أميرتي الجميلة”، إلخ…(هذه ملاحظات حقيقية من الواقع) مع قلوب حمراء متناثرة وأخطاء لغوية متكاثرة، بل يتعيّن أن تكون ملاحظات هادفة ترصد مكامن النّبوغ فتُذكيها وترقُب مواطن الخلل فتُقوّمها وتنبّه إليها في حرفيّة وموضوعية واعتدال.