جور نار

لماذا نضطرّ إلى تغيير القناة … مع كل خطاب لمولانا؟

نشرت

في

أطلّ علينا مولانا للمرّة الثانية جالسا على كرسي رئاسة مجلس الوزراء…لا شيء تغيّر عن المرّة الأولى ولا عن كل مرّة يخرج فيها علينا مولانا ليشبعنا دروسا في كشف عورة الفساد ومقاومته، وكيف نقتل العقرب بأسفل الحذاء…هكذا هو مولانا لم يتغيّر فهو لم يتخلّص إلى يومنا هذا من هاجس التدريس وإلقاء المحاضرات…وكأن الشعب…لا يزال في سنته الأولى من التعليم الأساسي…

<strong>محمد الأطرش<strong>

مولانا يريد شيئا، لكنه يطالب بأشياء أخرى…يريد أن نكون معه ووراء كل ما يعلنه…ويشتمنا…ويتهم بعضنا…ويصرخ في وجوهنا جميعا…مهدّدا… متوعدا بالويل والثبور والكثير من عظائم الأمور…هكذا هو مولانا لم يتغيّر ولم يدرك أنه اليوم رئيس الجميع من بنزرت إلى آخر نقطة في جنوب البلاد… وعليه أن يدرك أن من يشتمهم اليوم ويتهمهم بأبشع التهم لن يكونوا أبدا معه غدا…يوم يعرف الجميع أنهم أبرياء مما قال ويقولون…وعليه أن يترك ما للقضاء للقضاء فهو الأقدر والأدرى بما يفعله…فما يفعله وما يأتيه مع كل إطلالة هو تدخّل ضمني لا غبار عليه في القضاء…

مولانا لم يع إلى حدّ اللحظة أن إصلاح الخراب الذي عشناه منذ 14 جانفي لا يكون بالصراخ …ولا باتهام الجميع…ولا بسرد القصص التي لا نجد لها مقدّمة ولا خاتمة ولا معنى…إصلاح البلاد والخراب الذي عشناه ونعيشه إلى يوم الناس هذا يكون أحببنا أم كرهنا بشراكة حقيقية بين جميع المكونات السياسية والاجتماعية، في ظلّ حكم تعددي نحترم فيه الاختلاف…والرأي الآخر…فالتعايش بين الجميع لا يكون أبدا بتبادل التهم والتهديد والوعيد وفرض نمط سياسي واجتماعي بقوّة السلطة والجاه، وبتأويل نصوص الدستور كما ولما نريد…وعليه أن يعلم أن الجسد المريض لا يمكن أن يستجيب للعلاج بسرعة إذا لم يقع عرضه على طبيب ماهر يدرك حقيقة أوجاعه وما يعانيه…ويعرف كيف يعالجه ويخرجه مما هو فيه…دون أن يؤلمه ويؤذيه…وتونس اليوم جسد مريض وموجوع…

مولانا لم يخرج من دائرة خطابه المشحون …والغاضب…والمتشنّج منذ جلس على كرسي قرطاج وعرف حقيقة حجم صلاحياته…ولم يسلم أحد من خصومه من تهديده ووعيده واتهاماته التي لا تنتهي…وكأني ببعض من هم حوله حوّلوا وجهته نحو وجهة تُلهيه عن الهدف المنشود والموعود…مولانا لم يدرك إلى حدّ الساعة أن منهجه وطريقة تعامله مع بقيّة مكونات المشهد ومع متطلبات المرحلة لن تُفيد البلاد في شيء ولن تخرجها مما هي فيه…وقد تدخل البلاد في عزلة تامة، وتوسّع الهوّة بينها وبين كل حلفاء وشركاء الأمس…ولم يدرك أن من ينصحونه بتوخّي هذا المسلك المتشنج في تعامله مع المرحلة ومع بقيّة الأطراف المكونة للمشهد السياسي والاجتماعي، يريدونه أن يفشل في إيجاد وتقديم رؤية واضحة لاحتواء حالة الانقسام التي تعيشها البلاد، من خلال توحيد جهود كل الأطراف، من أجل بلوغ هدف واحد يتفق حوله الجميع في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد، علما بأنه لن يكون قادرا على ذلك بمفرده أبدا…حتى وإن وقفت إلى جانبه كل دول الخليج …

كما يريدونه أن يفشل في توفير أبسط ضروريات الحياة لأفراد هذا الشعب من صحة وتعليم وخدمات معيشية يومية والضغط على الأسعار والحفاظ على المقدرة الشرائية لجميع المواطنين من شمال البلاد إلى جنوبها…

ويريدونه أن يفشل في الوصول إلى مصالحة شاملة يجلس خلالها الجميع حول طاولة الوطن باستثناء من أجرم في حق البلاد والعباد ومن ساهم في خرابها وايصالها إلى ما هي عليه وفيه اليوم…

ويريدونه أن يفشل في مواصلة الحفاظ على أمن ونظام البلاد وايجاد التدابير الكفيلة للحدّ من خطورة الإرهاب والقضاء على ما تبقى من فلوله …

ويريدونه أن يفشل في القضاء على البطالة والبحث عن الطرق الكفيلة ومضاعفة الجهود من أجل خلق وجلب الاستثمار، لتوفير مواطن شغل للعاطلين عن العمل من أصحاب الشهائد العليا وبقية فئات المجتمع…

ويريدونه أن يفشل في إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس سليمة لا تقصي أحدا وعلى أساس الخبرة والكفاءة …

ولأن الخطاب هو الوسيلة الأكثر تأثيراً وتفاعلاً في نفس المتلقي، فإن بعض من هم حول الرئيس أو من ينصحونه من هنا وهناك لم يدركوا إلى يومنا هذا خطورة الخطاب الذي يتوخاه ساكن قرطاج منذ جلوسه على كرسي قصر قرطاج…فهذا الخطاب هو الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه اليوم من تحرّش سياسي من عديد الأطراف الخارجية التي لم تتعوّد منّا سابقا هذا الخطاب. فتونس عُرفت منذ استقلالها، بخطاب متوازن وعقلاني غير متشنّج، جلب لنا احترام الجميع شرقا وغربا…والخطر الأكبر هو أن يسيء البعض فهم خطاب ساكن قرطاج  فيرى فيه وسيلة للشحن الانفعالي المهيج للعواطف والكراهية …فنحن اليوم في حاجة أكيدة وملحّة إلى خطاب عقلاني مدروس وهادئ فخطاب الانفعال والتوتر لن يجلب لنا أبدا نتائج طيبة ومقبولة، و الصراخ والانفعال لن يصل أبدا بأصحابه إلى غاياتهم وأهدافهم، والخوف كل الخوف أن تكون نتائجه العكسية أكبر وأخطر على من يتبناه….

قد أتفهّم أحيانا تشنّج خطاب ساكن قرطاج فوضع البلاد موجع إلى حدّ الصراخ…لكن هل وجب أن يكون خطابنا على نفس الوتيرة وعلى نفس المقام دون أن نأتي يوما بأمر يسعد الشعب منذ جلوسنا على كرسي الحكم؟ والسؤال الذي يطرح نفسه بعد كل خطاب لمولانا ساكن قرطاج هل ثمّة عوامل أخرى وراء هذا التشنّج الذي نعيشه مع كل خطاب لساكن القصر؟ هل يمكن أن يكون لغياب مشروع سياسي واضح واستراتيجي لمولانا دور في كل هذا التشنّج؟ وهل يكون هذا الشحن الانفعالي والتشنّج الخطابي المتواصل مجرّد وسيلة للتغطية على ضعف المشروع والبرنامج السياسي لمولانا؟ وهل يمكن أن يكون نقص التجربة السياسية لمولانا وراء كل هذا التشنّج الخطابي؟ وكأني بساكن قرطاج يستخدم سيكولوجية الجماهير بخطابه الشاحن لتحقيق غايات لم يكشفها إلى حدّ الساعة، وقد تكون غايات انتخابية سريعة المفعول في قادم الأشهر، لكن هل قرأ حسابا للخسائر التي قد تتكبدها البلاد، فكل الأنظمة التي توخّت خطاب التهديد والوعيد انزلقت إلى الدكتاتورية إذ الخطاب العنيف يحمل دائما في طيّاته طبيعة ارتدادية تؤسس للعنف والعنف المضاد وقد تقود البلاد إلى تفكّك كامل للنسيج المجتمعي…

فهل يدرك مولانا ساكن قرطاج أن خطابه المتشنّج لن يذهب بنا بعيدا ولن يخرجنا مما نحن فيه، وهل يُقدم على تغيير خطابه من خطاب سلبي شاحن ومهيّج إلى خطاب إيجابي وعقلاني جامع ومدروس يوحّد الجميع حول هدف واحد… فالانفعالات كما يقول أفلاطون تقتل السياسة، وتحطم أسس المدينة والدولة… وقد كان أفلاطون حريصا على أن يقوم بنيان الجمهورية على أساس النفس العاقلة، ووضع النفس العاقلة فوق النفس الغاضبة والنفس الشهوانية…وهو بذلك يستبعد سلطة الانفعالات دينية كانت أو غير دينية عن القرار السياسي… فالخطر الأكبر على القرارات السياسية حسب افلاطون هي العواطف الإنسانية…فهل نسعد يا ترى بخطاب يختمه مولانا بطرفة تضحك الجميع…أم نواصل البحث عن قناة أخرى قبل نهاية كل خطاب لمولانا…؟؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version