جور نار

لو يتيسّر لنا في نهايات حياتنا إرجاع عدّاد العُمر إلى الصّفر…

نشرت

في

… لاعتذرنا شاكرين !

في عتبة متقدّمة من سلّم الحياة ننضُج قليلا ونتعلّم أكثر كيف نتآلف مع أكثر مظاهر الحياة توحّشا ونتمرّس على أي نحو  نستوعب خيباتنا ونُنسّب نجاحاتنا المزعومة وحتى النهايات المحتومة نفسها نتوصّل إلى السخرية منها والتعالي على نعيق أصواتها المُزمجرة والمُرافقة لنا منذ لحظة البدايات الأولى.

<strong>منصف الخميري<strong>

 فلو نحسب في الستّين كم من مرّة كِدْنا نلينُ لنداءاتها اللّجوج، لاعتبرنا أنه كُتب لنا أن نعيش آلاف المرّات في الحياة الواحدة. نهزأ منها لأننا نرفض أن نكون في حالة سراح مؤقّت، وهو إجراء زجري أشدّ وطأة على الإنسان من الإيداع النافذ.  

قد يكون تحت وطأة الخطوات العملاقة التي يقطعها الذّكاء الاصطناعي ربما، والنجاحات الباهرة التي تحققها الاختصاصات الطبية المختلفة والتصنيع الدّوائي ورفاه الحياة بصورة عامة، أن فكّرتُ بإمكانية أن نُسأَل عند حُلول مساء العُمر إن كنا نرغب في مزيد من الحياة … فكانت إجابتي مباشرة وباتّة وغير متردّدة بأن “الاستطالة” الاصطناعية المُقترحة لا أُرحّب بها شخصيا، لأسباب عديدة، منها  :

 ___ الاقتناع العميق بأن المُتع بأنواعها بناتُ ساعتها واللذات الُمُقتنصة في غفلة من القدر عابرةٌ لا محالة، وشذى الحياة زائلٌ يؤدّي وظيفته الآنيّة -كما عطور النساء الفاخرة-  ويتبخّر سريعا غير آبهٍ بالتخليد والتمديد والإقامة الدائمة. وكأن المعرفة المُسبقة بالنهايات والمآلات تُفسد بشكل مَا مذاق “الغنائم” أو على الأقل تجعلنا نذهب إليها دون كبير وَهْم أو عظيم إقبال. ومن حسن حظنا من جهة أخرى أن العلم المُسبق بنهايات الآلام والأيام الصعبة، يُخفّف هو الآخر من حدّة أوجاعها وأنينها.  وتأسيسا على ذلك، يُصابُ الانسان بنوع من التعفّف (لا يعني الترفّع أو التعالي) الذي يجعله مُقتنعا بحدّ الكفاف ومُكتفيا بتلذّذ أبسط الأشياء وأيسرها مثل تلمّظك بذِكر كِسرة أمّك التي لا تُضاهي عذوبتها النديّة أشهى أطباق الدّنيا، أو مراقبة نحلة تُلقّح حقولا نباتية بأكملها دون ادّعاء ولا تؤذي شيئا أبدا لا في الأرض ولا في السّماء، أو كذلك تأمّل سلحفاة تشيح بوجهها وكامل كيانها متحوّلة إلى كتلة صخرية في وجه عالم مُناوئ تزدريه.

___ الانتباه الموجع مع بداية الهبوط التدريجي لطائرة العُمر إلى أن القسمة بين حلو الحياة ومرّها غير عادلة بالمرة، لأن عربدة الفاقة والعوْز (بشتى أشكاله ومعانيه) أعلى صوتا من موسيقى الحُبور والبهجة والفرح الموفور. وإذا صادف أن استقر الانسان في وضع يتوفر على قدر من المقبولية، سرعان ما يستحضر أن له أطفالا هنا مُهدّدين وإخوة هناك يُحاصرون وأن حروبا مُدمّرة تُطل برأسها في كل حين لتذكيرنا بأن الإنسانية متجهة نحو الفوضى والمتعة-الساندويتش والبقاء للأقوى، أكثر من اتجاهها نحو بناء إنسان جديد يقطع مع حيوانيته وجشعه ومستودعات الحقد فيه.

___ التقدير العارم لبعض ما عِشناه من لحظات مشتهاة -على بساطتها- ولما توفّر لنا من مساحات فرح طبيعي خالٍ من المُضافات والأكسسوارات باهظة الثمن استولينا عليه في البطاح والحقول والأنهار وبين صفحات الكتب النادرة جدا في طفولتنا (وخاصة عندما تُنذر الصفحات الأولى من رواية “ابنة البيّار” لمارسيل بانيول بوجود مشاهد للحب والعلاقة الحميمية بين باتريسيا و”جاك مازيل” الطيّار المنحدر من عائلة غنيّة). وقد يكون من حسن حظ الجيل الذي عايش قصص إحسان عبد القدّوس (وفيلم الوسادة الخالية الذي وُلد من رحِمها) وقصص نجيب محفوظ وثلاثيّة جول فاليس … أنه لم تتوفّر لديه فرصٌ حقيقية للمقارنة الاجتماعية والخضوع إلى نير تقليعات الموضة والنّبض الاستهلاكي بصورة عامة، حتى كدنا نخال أن العالم كله يأكل ويسكن ويفرح ويمرح ويلبس بنفس الطريقة بما جعلنا لا نتذمّر كثيرا من نقص الرفاه أو غيابه تماما بحكم أننا لا نعرفه.

___ لأنه لا ذُنوب اقترفناها لنندم عليها أو نبحث لها عن مَمَاحٍ. نتصالح أيضا مع النهايات الموعودة ونرفض التمديد لاعتقادنا بأننا لم نُذنب في حق غيرنا أو نحصل على بعض ما وصلنا إليه بوسائل كريهة تمنعنا من مواجهة أنفسنا صباحا في المرآة. بل أعتقد شخصيا أن جيلا بأسره وفي مواقع مختلفة افتكّ مكانته بفعل كدّه ومثابرته وتضحياته دون أعطية أو هِبات من أحد… كجيلِ المعلمين الذين جابوا أرياف تونس ومداشرها ناشرين المعرفة ومفاتيح وُلوج العالم، والممرّضين الذين لقّحوا ضد أمراض السلّ والكزاز والحصبة في أعالي الجبال، والأمنيين الذين أنجبوا أطفالهم كل واحد في بلدة، والمهندسين الذين بنوا مُنشآت الاسمنت والفولاذ والخزف، والفلاحين الذين برعوا في جعل العالم يلتفت ناحيتنا في أكثر من عنوان… هكذا جيلٌ حريّ به أن يفخر بكونه أدّى دوره كاملا وبما استطاع، في تشييد حِصن كان بالإمكان تثمينُه واستكمال بناء طوابقه المتبقية.

___ لأنه وجب الإقرار بأن العصر لم يعد عصرنا واللغة التي يتكلّمها لا نستطيع فكّ حرفها

قد يبدو أمرا طبيعيا أن يكون لكل جيل مرجعياته ومُثُله وموسيقاه وطرائقه الخاصة في المراودة والخِداع ونصب الكمائن لكن لم يكن ثمّة قطيعة حادّة بين الأجيال المتعاقبة كما هو الحال اليوم، بل يظلّ دائما الجيل السابق يُلوّن بعض الجوانب في حياة الجيل اللاحق ويُنيرها ولا يفكّ ارتباطه به. 

عصرٌ هجينٌ كهذا، حيث لا قيمة للأشياء إلا حسب ما تدرّه من أرباح ولا مكانة للأفراد إلا بمقدار ما يأتونه من عَراء أو هُراء أو هذْي تطرب له آذان المُغفّلين… وحيث يُقصى فيه الفلاسفة والمفكّرون والمُصلحون من فضاءات التأثير والتأصيل ليحتلها المُهرّجون والمُطبّلون والغواني وبائعو الأواني… عصرٌ كهذا أُعدّ لأُناسٍ ليسوا نحنُ ولذائقة غير ذائقتنا لأننا من المؤمنين بوجاهة المثل القائل بـ “أن أعقلكم وأكثركم حِكمة من عرف متى يغادر الطاولة … في صمت ودون إحداث ضجيج” (بتصرف عن شارل أزنافور).

أقول في النهاية بأنني أنتمي إلى جيل لم يعد يهمّه أن يُبهر أو يُقنع أو يستميل أحدا، لأنه لم يعد قادرا على “تحمّل تكاليف الصّداقة ولا عبء المشاعر” على رأي شارل بوكوفسكي. 

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version