قد لا تكون ثورة خالصة ولا مؤامرة مكتملة الأركان ولا انتفاضة ناجزة ولا حدثا عابرا أو مجرد طفرة في تاريخ تونس، ولكن من المؤكد أن الذي حدث منذ 11 عاما كان لا بدّ له أن يحدث بشكل أو بآخر …
فقد تمّ ترهيل الدولة وتسليمها إلى كمشة من البانديّة يصفعون رجال الأمن في الطريق العام (حدث هذا في مرات قليلة لكنها كانت ظاهرة دالّة ومُنبئة بسقوط مدوّ) وجوقة من النساء تقودهن خبيرة في التصفيف والتحفيف وعقربة تُجيد “ضرب الخفيف” وأخريات تتدخّلن في التكليف والتشريف…علاوة على مناخ خنق الأنفاس وإحكام طوق أمني حديدي على كل ما يتحرك ومن يتحرك والإيغال في مزيد تأبيد الخصاصة وشظف العيش في دواخل الإيالة، بل ودحرجة باقي المناطق المحظوظة نسبيا نحو الغرب والجنوب عملا بمبدإ تكافؤ الفرص.
جاءت اللحظة – الفرصة التي كان عدد الذين ينتظرونها ويتمنّونها أكثر بكثير من الذين يخشونها ويهابونها وباتت مخازن الغضب والنقمة والإحباط أرفع منسوبا من مواطن الأمل والثقة بالمستقبل، ودفع الوطن الثمن غاليا في سبيل إقرار العالم بأننا شعب جدير بالحرية والكرامة مثل سائر خلق الله. وليسمح لي القارئ هنا بالذات بالقول إن الذين أتاحوا لحظة 2011 وجعلوها مُمكنة الحدوث كانوا منقسمين إلى شقّين كبيرين :
شق لا وطن له سوى تونس، “لعب عالمريول” وأدماه الخصم ومازال عاريا وفقيرا كما ولدته أمّه إلى الآن.
وشقّ شكّل نفسه من إخوانيين (كانوا يمتنعون حتى عن مجرد توقيع عريضة نقابية تندّد بتضييق السلطة على الحريات) لأن جوهر مشروعهم جنائزي وسماوي لا علاقة له بالأرض، و”بعض الحقوقيين” الذين كشفت الأيام أنهم مُرتزقة مدفوعو الأجر يُنفّذون أجندات يناقشون تفاصيلها مباشرة مع بريمر وليفي.
عشنا بعد 2011 على وقع ثلاث سرديّات مُنهكة ومُربكة أتت على جلّ المُراكمات التي بناها التونسيون بعرق جبينهم ودم شهدائهم وذكاء بناتهم وأبنائهم ومُثابرة عديد المسؤولين البُناة الذين حافظوا على نقاوتهم وصدق وطنيتهم رغم إغراءات السلطة وإغواءاتها.
سردية حقوق الإنسان :
ارتكزت هذه السردية على إعلاء قيم المواطنة والانخراط في الاتجاه العالمي لحقوق الإنسان ومفاهيم أخرى ذات علاقة بنفس السجلّ مثل العدالة الانتقالية وضمان المحاسبة و المساءلة وعدم إفلات المسؤولين عن الانتهاكات زمن الاستبداد من العقاب وحجية اتصال القضاء وعدم القبول بالدفع بعدم رجعية القوانين والجرائم الانسانية… وكلها أدبيات حقوقية سامية أعطت أُكلها في عديد التجارب الثورية الراقية في العالم، ولكن كانت في بلادنا مجرد يافطات أُريد بها تغليف مُحلّى لمشروع جهنمي خفيّ كان من أبرز عناوينه إلهاء الناس والتفرّد بعضعضة مفاصل الدولة والنّفاذ إلى أحشائها (في الأمن والجيش والإدارة) ومدّ الجسور المائية والجوية مع قطر للإطاحة بالنظام الليبي وتسليم البغدادي (باسم حقوق الإنسان طبعا) والاضطلاع بدور الخزّان الاستراتيجي لإسناد الدواعش في سوريا ومبايعة أردوغان الذي قالوا عنه “الله معك وشعوب العرب والمسلمين معك، وجبريل وصالح المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهير.” (من خطاب القرضاوي).
السرديّة السياسية :
عناوينها شرعية الصندوق المقدس وعُلويّة الانتقال الديمقراطي واستكمال مسار البناء السياسي والدستوري وبريق الحكم المحلي وعظمة التمثيل النيابي وتحصين الشرعية وسموّ السلطة الرقابية والقضاء المُدجّن هو الفيصل، إلخ… هكذا كانت الفترينة الديمقراطية السمحة، ولكن في الحديقة الخلفية كانوا يُحرّضون على العنف والاغتيال وينتدبون الآلاف من الموالين ويُسوّون وضعيات المُعاد إدماجهم مع الصناديق الاجتماعية ويُغذّون نفس العقلية الزبائنية التي يعرف ميكانيزمات اشتغالها جيدا الغرياني وأمثاله ويدفعون بمرشّحين غوّاصات موالين من الصف الرابع والصف الخامس لتحمّل المسؤوليات السامية، ليقولوا فيما بعد “نحن لم نحكم” ويُعبّروا عن أرذل آيات الولاء للدوائر الاستعمارية العالمية من أجل إطالة مدّة حكمهم أكثر ما يمكن. سرديّة أضحت كريهة لأنها بلغت درجة عالية من الصفاقة ترجمها أحدهم بـ “فوزوا في الانتخابات واحكموا أنتم إن كنتم من الصادقين” مُدركين أنهم الأقدر على التلاعب بنتائج الصناديق.
أما السردية الثالثة، فهي دستورية غنائية إن صح التعبير :
ما فعله رئيس الجمهورية يوم 25 جويلية كان لا بدّ منه لأنه وضع حدّا لعشر سنوات من “الشرود الديمقراطي” ولأنه استجاب لما اعتمل طويلا في وجدان التونسيين الذين كانوا شاهدين على سفينة وطنهم تغرق وآمالهم التي أجّجتها الثورة تتضاءل يوما بعد يوم، ومُشاهدين لجوقات برلمانية من الدّهاة والشطّار والكناترية والماكرين والموتورين “أكلوا على قلوبنا وشربوا”. إلا أن خطاب “التسامي والإشباع التعويضي المُشهّر بمن زاد من تفقير الفقراء وجوّعهم ونكّل بهم، و التنديد بأولئك الذين لا يعرفون سوى السبّ والشّتم والقذف والسقوط الأخلاقي غير المسبوق، والتمسك بالشرعية المشروعة لتحقيق الأحلام والآمال وعدم ترك الوطن فريسة للوحوش والكواسر الخ…” لا بدّ أن يقترن بإجراءات عملية مباشرة ينعم بآثارها شعب متعطش إلى حياة أيسر ورفاه أكبر وكرامة أوفر واقتصاد أقدر… وفرض حجر نهائي مُطبق على أبواب عانينا طويلا من مآسيها وجروح غائرة أعيت من يُداويها.
لن نعود إلى الوراء نعم لأن الماضي الذي يحنّون إليه قاتم جدا ودموي جدا، ولكن لا بد من مغادرة الساعة صفر ليوم 25 جويلية والانطلاق في بناء صرح تونس الجديدة الذي به تُلجم أصوات “كل الورائيين” ولا شيء آخر.