تابعنا على

جور نار

ماذا نقول لـــ 2023 ؟ سنبني تونس التي نُريد أحببْتِ أم أبيْت

نشرت

في

“الماضي من التاريخ، والمستقبل غامض ومُفعم بالتساؤل، أما اليوم فهو هِبَة حقيقية لذلك نسمّيه حاضرا”  الأمريكية إيليانور  روزفلت.

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

ليس لديّ شخصيا أيّ وهم في أن نرفع – بمجرّد أمنيات وصلوات استسعاد– سنة حالكة ونستبدلها فجأة بأخرى تكون أقل ضراوة وأكثر غبطة. لكن ذلك لا يمنعني من الاستبشار والتلويح بكل ثقة أن السنة الجديدة ستكون أرحم من سابقتها شاءت أم أبت وستكون حُبلى بكل معاني الفرحة والخروج من النفق المظلم الذي أبحرنا في ثناياه بالرغم عنّا وبالرغبة منّا أحيانا أخرى.

أكاد أتحدّى السنة الجديدة أن تقدر على محاكاة ما فعلتهُ بنا سابقتها وأن تحفر أكثر من هذا في جروحنا الغائرة، وأن يكون لديها من طاقة زرع الإحباط ما هو أوفر مما اختزنته سنة 2022.

أنا مُصرّ على تفاؤلي وتعهّده رغم الصعوبات والتحديات الجبلية التي تواجهها بلادنا في هذه اللحظة الفاصلة بين عامين، والفاصلة أيضا بين وضع أزّمته أحزاب وقطعان ومجموعات حكمت بكل ما لديها من غُلّ وحقد ونهم وعطش إلى مُراكمة الغنائم لا يرتوي، ووضع لم يقدر الماسكون به اليوم على الارتقاء به وتطويق آثار الإعصار الذي مرّ على البلاد وإعادة ترتيب البيت التونسي البديع في أصله… حتى بات وضعا يُنذر بكل الأخطار … التي لن أعدّدها لوقعها المُدمّر على كياننا الذي أنهكته الجوائح والذبائح.

متفائل بشكل “غير ساذج” لاعتبارات موضوعية أعتبرها غير متنافرة كثيرا مع واقعنا :

أولا : يقول أسلافنا ان الأوقات الصّعبة يتعيّن التعامل معها على أنها مجرد عواصف لا تُعمّر أبديا وسرعان ما يخرج الناس في يوم الغد يتفقدون محاصيلهم ومواشيهم ووضع جيرانهم، وأن الحياة لا تختار أبدا عوضا عنّا لأننا نحن القيادة الوحيدة لسفينة حياتنا. “فلدينا الحرية في أن نَعبُر العاصفة إلى غاية تلك الضفاف المجهولة والعذراء وذات البهاء الأزلي حيث تكون كل الأحلام مُمكنة” على حدّ قول الروائي كومباس.

وبالتالي، فإن الوضع الاستثنائي الراهن لن يطول أكثر من هذا، حركة التاريخ ترفض ذلك… لقد حان الوقت لانقشاع الغيوم واستقرار الأوضاع مجددا، حتى وإن كانت كُلفة الترميم وإعادة البناء باهظة جدا وتتجاوز إمكانيات دولة تضافرت عليها عدم كفاءة مُسيّريها وأزمات الوضع العالمي المتهالك.

ثانيا : لو نتعامل بشيء من التنسيب والإيجابية مع الوضع التونسي خلال السنوات الأخيرة بعد 2011، لقلنا ان التونسيين عاشوا خلال 10 سنوات ما تعيشه الشعوب الأخرى خلال مئات السنين، إذ تسنّى لهم أن يتعاملوا مع كل الرّهوط وشتى أنواع خطابات البلّوط، وتيسّر لهم تجريب كل أنواع الانتخابات والهيئات والاستفتاءات والاستشارات وأصناف الدساتير حتى فقدوا الثقة في مُخرجات الصناديق ولمعان المساحيق. عايشنا كل شيء تقريبا وألِفناهُ وقدَرنا على استيعاب أبشع الوقائع وأتعس المآلات (دون التصالح معها)  : ألم يدفع الشعب التونسي من عظمه ولحمه ملايين الدولارات تعويضا للأمريكان على احتراق سفارتهم على يد كمشة من اللحي المأجورة التي تحميها وزارة الداخلية ؟ ألم يسكن الإرهاب المسلح ديارنا ومصحّاتنا ؟ ألم تكن تونس منطقة عبور لكل مجرمي العالم المتجهين إلى سوريا والعراق وليبيا ؟ ألم نساهم في تدمير ليبيا وسوريا ؟ ألم يكن وزراؤنا يصوّرون إلى جانب أحذية زوجة رئيس أسبق تعبيرا عن ثوريّتهم البِكر ؟ … بعد كل هذه الفظاعات وغيرها (التي لا أعتقد أن شعبا واحدا في العالم عاش مثلها في ظرف تاريخي وجيز جدا)، لا أعتقد أن القدَر مازال يُخفي بشاعات أخرى، لأنه أفرغ كل ما في حقيبته كما أفرغ السيد نُويل حقيبة هداياه وعطاياه في موفى 2022.

أين هم كل أولئك الذين شمتوا فينا وأعدّوا لنا المشانق والمقاصل وبدؤوا في تخزين الأسيد الحارق لرش السيقان النسوية العارية ؟ لا أثر لهم حتى وإن مازالوا على قيد الاستعداد للتّخريب، لكنّهم قُبروا نهائيّا في ذهنيّة التونسي… الذي قطع بشكل حاسم مع أغلب العناوين والأصول التجارية التي دمّرت الشعوب تاريخيا : الاتجار بالأخلاق وتوظيف الأديان ومقولات “الوطن فوق الأحزاب” الكاذبة وكذلك الوقوف في صفّ الفقراء والمساكين.

لم يبقَ أمام الجميع إلا عنوان واحد : عنوان “قالّو حصاني يصفّ السّدرة ; قالّو هذا حصانك و هاذي السّدرة“، بمعنى أن كل الحظائر مفتوحة على مصراعيها في الوقت الحالي وتتطلب معالجتها أيادي ماهرة وعقولا استباقية وروحا وطنية خالصة تُخلّص البلاد ممّا تردّت فيه…ولكن بشكل ميداني ليرى التونسيون نتائج الإصلاح ومعالجة الملفات الكبرى على الأرض ضمن آجال منظورة.  

ثالثا : الاعتبار الثالث الذي يجعلني متمترسا في تفاؤلي ومتوقّعا أن بلادنا ستنتصر قريبا على نفسها، هو اقتناعي الراسخ بأن بلادا يعرفها العالم بأسره بكونها بلادا تزدهر فيها الكفاءات بأنواعها (وخاصة في الطب والهندسة والرقميات وتسيير المؤسسات المالية والبنكية والخبرات الفلاحية والحديدية – نسبة إلى سكك الحديد- حيث تُبنى اليوم أرضية القطارات والميترو في بلدان الخليج بكفاءات تونسية، الخ…). وتُعرف كونيّا كذلك بأنها بلاد-حديقة تتّسع لكل ما تشتهي العين وسقف الحلق من غلال وفواكه وحبوب وأشجار وثمار تكفي لإعاشة لا التونسيين فقط بل جزء كبير من الانسانية. نعم تونس يعرفها العالم المتحضّر بأنها أنجبت أسماء عُظماء تركوا بصماتهم المحفورة في صفحات كتاب الانسانية جمعاء وبأنها بلد صغير يُنافس على أولى المراتب في كل المسابقات الرياضية وبأنها رقعة جغرافية ضئيلة طموحها وأحلام أبنائها أوسع من مساحتها.

بلاد بهذه الصورة وهذا الزخم وخاصة بهذه الحصانة المُكتسبة بعد سنوات دهريّة من العبث المنظّم لا يمكن أن تسقط. وحالة اللادولة لا يمكن أن تستمر. ومناخات التوتر السياسي الدائم لا يمكن أن تتواصل إلى ما لا نهاية. والجُرعات الانتخابية والدستورية اللامتناهية باتت فاقدة لأية مشروعية لأنها لم تقترن بأي تقدّم في مجال معيش الناس وعدد المليمات في جيوبهم.

أقول في الأخير ان التونسي الذي بَنى آلاف المدارس والمعاهد والجامعات وشيّد السّدود وآلاف الكيلومترات من الطرقات والجسور في الداخل والخارج وخرّج أفواجا وأفواجا من المهارات العلمية المطلوبة اليوم في العالم وزرع ملايين أشجار النخيل والزيتون … قدرُهُ أن يستعيد عافيته ويستبعد كل “الزوائد” على طريق صنع مجده وانتزاع مكانته التي تليق به بين شعوب العالم.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن ربع قرن، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1997… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار