استوعبتُ صدمة نتائج التوجيه الجامعي وسلّمتُ أمري وشأن الناجحين الجدد في الباكالوريا للقائمين والقاعدين على كرسي المسؤولية في التعليم العالي… إلى أن قامت وزارة التعليم العالي يوم أمس بنشر بيان توضيحي رأيت من باب المسؤوليّة المُواطنيّة الردّ عليه لكونه لم يكن توضيحيّا بقدر ما كان تبريريّا ومُجانبا للحقيقة في أكثر من موضع ولم يتحلّ من صاغه بأي جرأة في تدارك النتائج السلبية للدورة الرئيسية للتوجيه الجامعي والتي سبق لي شخصيا أن حذّرت منها في ورقة تحليليّة مُطوّلة.
يقول بيان 09 أوت إن نتائج امتحان الباكالوريا هذه السنة كانت قياسية خلافا للتوقعات وذلك بزيادة تُقدّر بـــ ـ46 % مقارنة بالسنة الماضية… وهذه في نظري حجّة مردودة لأنها تُوحي ضمنيّا بأن هؤلاء الطلبة الجدد وكأنهم قادمون من كوكب آخر أو لاجئون من بلد مجاور والحال أنهم أبناء وزارة التربية لم يسرقوا نجاحهم ومكّنتهم منه باستحقاق لجان علمية يشهد الله أن أعضاءها من أساتذة ومتفقدين أسوياء جدا على المستوى العقلي وبالتالي هم لا يُجامِلون ورقة امتحان نكِرة بلا هوية (إلا ما ورد فيها من محتوى معرفي) ويحدث أن يتصادموا بحدّة في مناقشة نصف نقطة زيادة أو نقصانا في العدد النهائي المسند للتلميذ المُمتحن. وبالتالي فإن انتقالهم من وزارة إلى أخرى وإن مجهود التحلّي بالحوْكمة الرشيدة في توزيعهم على مختلف اختصاصات التعليم الجامعي محمول على الدولة التونسية الموحدة بصرف النظر عن مدى متانة التنسيق بين الهياكل المعنية فيها.
يقول البيان ثانيا إنه تم كذلك “تسجيل نتائج قياسية في أعداد الناجحين المتفوقين بملاحظات حسن وحسن جدا وهو ما أدى الى ارتفاع المجموع المطلوب خلال التوجيه الجامعي في أغلب الشعب خاصة منها ذات طاقة الاستيعاب المحدودة… “.
في سياق نفس المنطق التبريري، تتذرّع وزارة التعليم العالي بارتفاع نسبة المتفوقين بمعدلات متميزة لتفسير سرّ الارتفاع غير المسبوق في مجموع نقاط آخر موجّه هذه السنة، بينما من المفروض أن تكون هذه الظاهرة مصدر غِبطة لدى مسؤولينا لأن النجاح بــ 10 يمكن أن يتأتّى من مرونة ما في وضع مواضيع امتحان الباكالوريا لكن النجاح بــ 19 و 18 و 17 و 16 من عشرين هو بالضرورة مؤشر نبوغ وقدرة على متابعة الدراسات اللاحقة في أكثر الاختصاصات الأكاديمية تميزا، وبالتالي يتعيّن على المسؤول الإداري التقاط هذه الوفرة في “التميّز” لتعزيز منظومة تكوين الموارد البشرية في بلادنا لا أن نعتبرها لعنة لحقت منظومة التوجيه الجامعي.
أما من ناحية أخرى، فإن القول بـ “أنه قد وقع الترفيع في طاقة استيعاب الشعب ذات عدد الأماكن المحدودة قبل انطلاق عملية التوجيه الجامعي”… هو كلام حق يُراد به باطل لأن طاقة الاستيعاب الوطنية تمّ الترفيع فيها فعلا لكي يجد كل طالب جديد مقعدا جامعيا. هذا صحيح ولكن ما يسكت عنه بيان التعليم العالي بنوع من التذاكي أن طاقة الاستيعاب وقع الترفيع فيها في الشعب “العادية” والبعيدة عن المراكز الحضرية الكبيرة وتمّ في المقابل إما المحافظة على نفس طاقة استيعاب السنوات السابقة في بعض الشعب أو التقليص فيها بشكل ملحوظ خاصة في الشُعب التي تعرف إقبالا مكثفا كل سنة مثل الأقسام التحضيرية للدراسات الهندسية والاختصاصات شبه الطبية وبعض اختصاصات علوم التصرف… بحيث تضافرت كل العوامل لتقف حائلا دون حصول المتميزين جدا على شعب بذاتها (ارتفاع عدد الناجحين + تحسّن نوعية النجاح + تقليص طاقة الاستيعاب أو بقائها على حالها = ارتفاع خيالي في مجاميع النقاط).
كنّا تاريخيا نقيس مدى جودة عمليات التوجيه الجامعي ومستوى الرضى العام على نتائجه من خلال مؤشر “حصول المترشح للتوجيه الجامعي على واحد من اختياراته الأربعة الأولى” أما اليوم فأصبحت تُقاس هذه النجاعة بالحصول على واحد من الاختيارات العشرة التي عبر عنها المترشح. فإذا أضفنا رقم الــ 14 ألف ممن لم يحصلوا على تعيين خلال الدورة الرئيسية إلى نسبة المتحصلين على اختيار مرتب بعد الاختيار الرابع… فأتوقع أن تبلغ نسبة غير الراضين عن توجيههم الــ 50 بالمائة في أحسن الأحوال.
ثم يقول البيان من ناحية أخرى إنه “لم يعد بالإمكان حاليا الترفيع في طاقة الاستيعاب نظرا للمقتضيات البيداغوجية وكذلك التجهيزات والفضاءات المتوفّرة لديها.” أولا لِمَ هذه الاستحالة، وقد سبق لكم أن رفّعتم في طاقة استيعاب بعض الشعب قُبيل الدورة الرئيسية بعد تنبيهكم إلى فجاجة ما أقدمتم عليه في لحظة أولى ؟ ثم وفي علاقة بالمقتضيات البيداغوجية التي تتحدثون عنها، كيف تفسرون مطالبة المجلس العلمي للمعهد الوطني للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا لكم على سبيل المثال بتخصيص 200 مقعد للناجحين في شعبة الرياضيات، و لكن تمسّكتم بألا تخصصوا أكثر من 140 مقعد … أليس هذا ضربا لمصداقية الأقسام البيداغوجية والعلمية بالمؤسسات الجامعية لفائدة قرار إداري لم نتوفّق إلى إدراك كُنهه ؟
ثم بالله عليكم، ما هي كُلفة طالب جالس في مدرج جامعي يُدوّن بعض المعلومات ويُكابد ذاتيا لتحقيق أفضل النجاحات في آخر السنة الجامعية والعالم كله يعرف جيدا عدد ساعات التدريس والتأطير الفعلية التي ينتفع بها الطــالب التــونسي ؟
وأقول أخيرا إن البيان سكت في جملته الأخيرة (“وستُمكّن دورة إعادة التوجيه الطلبة وفقا للمجموع الخاص بسنة 2021 من إعادة اختيار شعبة يخولها له مجموعه ولم يقم باختيارها سابقا”) عن تراجع وزارة التعليم العالي ضمن دليل التوجيه الجامعي الأول في حق تاريخي مكتسب كان متاحا للطلبة الجدد وهو حق التمتع الآلي بإعادة التوجيه كلما كان مجموع النقاط مساويا أو يفوق مجموع نقاط آخر موجّه وذلك من خلال ربطه بشرط ألا تتجاوز طاقة الاستيعاب النهائية 20 بالمائة من الطاقة الأصلية،
وهو قرار كان سيُفرز تدميرا آخر لما بقي من بعض أحلام التلاميذ المتفوقين. وها هي تتراجع عن هذا التراجع الذي يُعتبر خيارا يستجيب ولو بصفة جزئية جدا لطموحات الطلبة الجدد المترشحين للتوجيه الجامعي هذه السنة.