والجميع يتحدّث عن إصلاح جوهري مُرتقب لمدرستنا التونسية، هذه بعض المبادئ البسيطة في كيفية حوْكمة منظومة من أرقى المنظومات التربوية في العالم بدون ندوات ضخمة في نزل فخمة أو شعارات هرِمة لم تقدر تاريخيا على إخراجنا من غياهب العتمة.
مفارقتان أساسيّتان تحضران عندما نتحدّث عن جودة أداء المدرسة الفنلنديّة بكل طوابقها :
فنلندا مُصنّفة عالميا من البلدان التي أحرزت أفضل النتائج المدرسية في التقييمات الدوليّة وهي التي تطلب من تلاميذها تمضية أقل وقت ممكن داخل الأقسام وتطالبهم بأقل ما يمكن من الامتحانات والفروض.
فنلندا بلد ليس به نفط أو ذهب أو مناجم ولا يتمتّع إلا بثروة غابيّة وخشبية كبيرة أحسن الفنلنديّون استغلالها. وصعود الصناعات الفنلندية بشكل لافت اليوم في مجالات الإلكترونيك والاتصالات والتكنولوجيا الرقمية دليل على أن العقل هو الثروة الحقيقية قبل الخيرات الأحفورية.
تربويّا، يتحصل التلميذ الفنلندي حسب تقييمات بيزا الدولية PISA على أفضل النتائج في الرياضيات والعلوم وفهم المقروء مقارنة بكل بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (التي تضم كل البلدان المتقدمة تقريبا)، والحال أنّ 10 % فقط من التلاميذ الفنلنديين كانوا ينهون تعليمهم الثانوي إلى حدود سنة 1960.
ويمكن تلخيص الوصفة الفنلندية الفارقة في العناصر التالية :
أولا : فكرة الدولة السماويّة أو الدولة الراعية التي يعترض عليها الكثير من التونسيين المبرّرين لمنطق تخلي الدولة عن دورها المركزي وتعليل الانفجار غير المسبوق للقطاع الخاص، مازال لها وقع مهمّ في فنلندا حيث توفر الدولة البنية الأساسية التي تُتيح لجميع الأطفال الحق في تعليم جيّد وإمكانيات واسعة لتطوير مؤهلاتهم وبصفة مجانية إلى حدود سنّ 18.
ثانيا : التعليم العمومي ذو الجودة العالية لا يتأتّى فقط من سياسات تربوية وإصلاحات دورية مجدّدة بل من سياسات اجتماعية ناجعة كذلك، حيث تلعب الدولة دورا حاسما من خلال توفير ظروف منصفة لكل الأطفال وعائلاتهم “من أجل إذابة كل المُعيقات ما قبل الدراسية وتحقيق مسار دراسي ناجح في سن السابعة” كما يقول بازي ساهلبرغ أحد خبراء التربية الفنلنديين، لأن الحيف الاجتماعي يعطل آفاق الناس على أكثر من مستوى… وأنه توجد علاقة ثابتة بين توزيع الخيرات وتعلمات التلاميذ.
فبعد الحرب العالمية الثانية اعتمدت فنلندا على منوال اقتصادي طوّر المساواة والعدالة الاجتماعية الذي تم بموجبه تأمين مجانية الصحة والتعليم ومسكن لائق في المتناول. كما وقع تطوير منظومة الرخص الأبوية السخيّة لتشجيع الرجال على مزيد الاعتناء بأبنائهم، علاوة على محاضن مدعمة جدا من أجهزة الدولة أو مجانية وتغطية اجتماعية هامة لعموم المواطنين.
ثالثا : إعطاء قيمة كبيرة للمدرّسين الذين يتمتعون بظروف عمل طيبة جدا حيث يتقاضون أجورا مُجزية ويتكونون بصفة مستمرة في كيفية إيلاء عناية خاصة لنمو تلاميذهم وتطور كفاياتهم، فأصبح التعليم من المسارات المهنية التي يُقبل عليها الطلبة في الجامعات قبل الطب والحقوق والهندسة المعمارية … يُشار إلى أن كل المدرسين الفنلنديين يُنتدبون بمستوى ماجستير ويمارسون تدرّبهم المهني في أقسام حقيقية.
رابعا : الزمن المدرسي في فنلندا قصير للغاية بالنسبة إلى باقي البلدان : 670 ساعة سنويا في الابتدائي (كوستاريكا أكثر بمرتين وفي الولايات المتحدة وفي كولومبيا يتلقى تلميذ الابتدائي أكثر من ألف ساعة في السنة)، لأنهم يؤمنون بأهمية أن يُترك وقت كاف أمام الطفل حتى يكون طفلا. وأفضل صيغة للتعويض عن تقليص الوقت المُقضّى داخل الفصل هي في جعل الكيف ينتصر على الكمّ ويتجاوزه، حيث تكون إصابة الأهداف البيداغوجية المبرمجة أهم من القصف البيداغوجي العشوائي والحشو الإملائي الممل الدال على أن ثقافة العديد من المجتمعات مازالت ثقافة نقل لا ثقافة عقل. علاوة على التقليص أكثر ما يمكن من الفروض التي يعود بها التلميذ إلى المنزل.
خامسا : المناخ المدرسي منساب جدا وجذّاب وغير قاهر، إذ لا وجود لزي مدرسي موحد والتلاميذ يتجولون في جوارب كما في معظم البلدان الإسكاندينافية من أجل إتاحة “مرونة في الحركةوالجلوس” في أقسام غير تقليدية يتنوّع فيها الأثاث والتجهيزات، وتعطى أهمية خاصة للنشاطات اليدوية الى جانب المواد التقليدية مثل الرسم والطبخ و أشغال الخشب والموسيقى والخياطة وترتيب الأثاث وتنظيف الأواني وترصيفها …
سادسا : بُني البرنامج المدرسي الفنلندي على مساعدة التلاميذ على تطوير شغفهم وفضولهم الطبيعي وتعميق تعلماتهم، بدلا من إرساء مناخ متوتّر بفعل الامتحانات نظرا إلى عدم وجودها اصلا خلال الخمس سنوات الأولى للتعليم … وخلال السنوات الموالية يُقيّم التلاميذ حسب أدائهم داخل الفصل. المبدأ هو أن لكل تلميذ قابلية للتعلم إذا أُعطي ما يكفيه وما يلزمه من الدّعم والإمكانيات. ويعتقد المدرسون أن دورهم يتمثل في مساعدة التلاميذ على التعلم دون ضغط وتطوير فضولهم الطبيعي وليس مساعدتهم على النجاح في الامتحانات. حسب تقييم بيزا، 7 % فقط من التلاميذ الفنلنديين يشعرون بالملل إزاء تعلّم الرياضيات (بينما تبلغ هذه النسبة الـ 52% في اليابان بالرغم من حصولها هي الأخرى على نتائج مدرسية طيبة في التقييمات العالمية).
سابعا : يتميّز النظام التربوي الفنلندي بقدرات إفراديّة وتمييزية إيجابية ساهمت في صُنع مجده، حيث يتمّ الاعتناء بالحالات الخاصة من لدن أساتذة إضافيين (يطلقون عليهم ممرّنين أو ميسّرين مدرسيين) وتوضع المقاربات النفسية والتربوية الخاصة للتعامل مع أبناء الهجرة (حوالي 50 % من التلاميذ هم من أصول أجنبية (
ثامنا : تنويع المقاربات والمناهج لأن التلاميذ لهم أنساق تعلّم مختلفة وليسوا كتلة واحدة متجانسة، والمُحيط والبرامج وطرق التدريس وهندسة الأقسام وتجهيزاتها هي المُطالبة بالتأقلم مع ملامح التلاميذ المتنوعة وليس العكس، ودور الأساتذة والمعلمين أن يعلموا الأطفال كيف يتعلمون، لأن المعلومات متوفرة في كل مكان. لذلك نجد أنه من بين المهارات التي تصنف فيها فنلندا الأولى عالميا هي “القدرة على حلّ الإشكاليات” التي تُعتبر من الكفاءات الأولى التي تختبرها المؤسسات الاقتصادية والصناعية المشغلة.
يجدر التأكيد في نهاية هذه الورقة أن التربية في فنلندا ليست رهانا سياسيا، إذ تتبدّل الحكومات وتظل التربية نفسها والرّهانات ذاتها، تتغيّر البرامج كل 6 سنوات ولكن تبقى وظيفة المدرسة هي الإعداد للمستقبل ودفع التلاميذ لاستكشاف إن هم يدويّون أو ذهنيّون، وإن هم غيريّون أو يفضلون العمل بشكل انفرادي، وإن هم مُبادرون أو ميّالون إلى العمل كموظّفين ومأمورين…
بمعنى أن الكلام التونسي الذي يؤكّد على أن “التلميذ هو محور العملية التربوية” هو مجرّد إنشائيات غير مُنتجة كما في كل الميادين.