ما كنت أغيّره في أسلوب التّدريس … لو يعود بي الزمن إلى سنوات الثمانين
نشرت
قبل سنة واحدة
في
ذاك أستاذٌ في التعليم الثانوي أو في التعليم العالي يُدرّس مُتكِئًا على “أوراقه الصفراء”… هذا التعبير كان متداولا جدا بين التلاميذ والطلبة في فترات سابقة (لست متأكّدا إن كان مازال على قيد الاستعمال إلى اليوم) وكان يُرمز به إلى كل مدرّس لا يجدّد أساليبه ولا نصوصه ولا أمثلته ولا خطابه ولا حتى قصص الطفولة التي عاشها والتي يستدعيها بمناسبة وبغير مناسبة، المهم أن تكون حَكايا مُدلِّلة على نبوغه المبكّر أو رباطة جأشه أو تفوّقه الدراسي على كل أترابه.
هم لا يُجدّدون لأن التجديد مُكلفٌ (لا فقط ماديا بل ذهنيا خاصة) ولأن عقلية “عَشرة الحاكم” لا يغذّيها المتمدرسون فحسب بل يستبطنها سائر الموظفين ومنهم المدرّسون بمختلف أصنافهم.
أشعر في أحيان كثيرة بنوع من الحنين الدّافق والمتوهّج إلى مربّع القسم (ولكن بأدوات اليوم وكمّ المعارف المُلقى على ضفاف أودية الويب ومجاريه وبمستوى النضج الذي تحققه رغم أنفك مع مرور السنين ومراكمة التجارب)، فأعدّل المقاربات وأجوّد زوايا الولوج إلى النص وأستميت في استنهاض هِمم كل أولئك الذين يئسوا من اللحاق بالكوكبة الأولى، وجعلهم يستعيدون الأمل في ترويض اللغة وتليين العبور إلى مجاهلها.
فبالإضافة إلى مزيد العناية بالذين يتهدّدهم غول الارتداد إلى الأميّة وتوفير مساحات أكبر للإصغاء والتركيز على إكساب التلاميذ مهارات تواصل شفوية، في ارتباط بمشاعر يعيشونها ومخاوف يغذّونها وملذّات يتوقون إليها (وليس بالضرورة في علاقة بسياقات وثقافات قادمة إلينا من وراء البحار)… كم وددت أن تكون لي ملَكة حكي خارقة أسرد عليهم من خلالها قصصا آسرة وأساطير مُلهمة ترتبط أحداثها وحِكمها بالمحاور المبرمجة والمضامين المدرجة حسب المستويات الدراسية.
لكن لِمَ هذا الاهتمام بفنّ الحكي وفوائده البيداغوجية ؟
تتجه العلوم العرفانية الحديثة إلى إثبات أن تنظيم المعلومات على شكل سرديّات يستحثّ الاهتمام والمعنى ويجعلها أيسر في تنظيمها واستيعابها وتتيح بشكل أفضل التذكّر وبالتالي استدامة التعلّم… الحكي -حسب الكتابات المتخصصة- يعطي معنًى وينقل أحاسيس ويساعد على شدّ الانتباه ويُسهّل تناقله بين الأفراد والأجيال.
عندما ألتقي تلاميذ أو طلبة قدامى أو متكوّنين بصفة عامة، يُذكرونني بحكايات رويتُها وطرائف حكيتها ومقولات سردتها وأبيات شعر تذكرتها وحتى ردود فعل استثنائية أتيتها في وضعيات مدرسية عشناها سويّا… أما المضامين “المقرّرة” رسميا فلا أحد يحتفظ بها أو يتذكر تفاصيلها، لأنها حسب تقديري مرتبطة باستحقاق الامتحان والعدد وليس بتعلم دروس الحياة بمراتعها الواسعة ومباهجها ومواطن الحِكمة والتجربة فيها.
من المراجعات المؤكدة التي كنت سأقوم بها لو تعود بي ماكينة الزمن إلى تجربة التدريس، هي التسلّح بأكبر قدر ممكن من الحكايات القصيرة تكون حُبلى بالمعنى والدافعية ومُحرّضة على الفعل وعدم الاستسلام … أتدرّب على سردها بشكل فيه شغف وإمتاع وقدر من المسْرحة المساعدة على الإبهار. وتكون الفائدة أكبر وأشمل عندما يحفظونها عن ظهر قلب ويتولون استرجاعها وسردها كلما تسنّى لهم ذلك.
ومما سأسرده عليهم دون تعسّف ودون أن يكون ذلك هدفا في حد ذاته بل رافعة بيداغوجية ترتبط بمحاور البرنامج أو بحدث عاصف ما جدّ خلال تلك الأيام… أكتفي بالحكايات الثلاثة التالية :
الحكاية الأولى : الموسيقار موزار وتلميذه
يُحكى أن الموسيقار النمساوي وولفغانع أماديوس موزارت كان مُتبنّيا لشاب موهوب موسيقيا ومولع بالتأليف الموسيقي، وبعد تمارين عديدة في التلحين، سأل التلميذ معلّمه : “هل بإمكاني تأليف سمفونية ؟”
ردّ عليه موزار : ” إممممم، باستطاعتك تأليف لحن صغير على آلة البيانو”
انزعج التلميذ وأحسّ بنوع من الإهانة والاستنقاص، فذكّر موزار بكونه هو من كتب أولى سمفونياته الناجحة وهو لم يتجاوز الثانية عشر من عمره.
أجابه موزار : “نعم تماما، ولكنني لم أطلب أبدا الإذن من أي كان للإقدام على ذلك“.
… ثم يُفسح لهم المجال لالتقاط “المعنى المندسّ” واستخلاص العبرة أو العِبر من الحكاية التي يصعب نسيانها مع مرّ السنين…حتى وإن تعرضت إلى بعض تشوّهات الطريق.
الحكاية الثانية : سقراط والمصافي الثلاث
كان سقراط يتمتع في اليونان القديمة بصورة لامعة أهمّ عناوينها الحِكمة والسعي الدائم وراء الحقيقة وهو الذي قال : “الحياة غير المختبرة لا تستحق أن تُعاش”.
ذات يوم، أتاه أحدهم ليسأله متحمّسا “هل تعلم ما الذي عرفته للتوّ عن صديقك” ؟
أجابه سقراط : “عفوا قبل أن تُكمل، بودّي أن أُخضعك لاختبار المصافي الثلاث”
تساءل مكلّمه : “المصافي الثلاث ؟”
– “نعم المصافي الثلاثة”، أجابه سقراط، “تلك هي طريقتي في تحليل ما علي أن أقوله واختبار مدى وجاهة ما يتلونه عليّ… مهلا، ستفهم قصدي بالتأكيد”
المصفاة الأولى هي مصفاة الحقيقة : هل تأكّدت من أن ما ستقوله لي هو الحقيقة ؟
أجاب الزائر : بصراحة لا. أنا ببساطة سمعت جمعا من الناس يردّدون ذلك.
حسنا أجاب سقراط: أنت لست متأكدا بالتالي إن كانت تلك هي الحقيقة. نمر إذن إلى اختبارالمصفاة الثانية : ما تريد أن تُعلمني به في ما يخص صديقي، هل هو شيء جيد وجميل ؟
أجاب الزائر : “لا أعتقد ذلك بل العكس هو الصحيح”
إذن، أردف سقراط، “تريد أن تروي لي أشياء بشعة تخص صديقي والحال أنك لست متأكدا من صحتها ؟ “
غمغم زائره وحاول الردّ… لكن سقراط قاطعه قائلا :
“وفي الختام ، وهذه هي مصفاتي الثالثة : هل تعتبر أنه من المفيد إعلامي بما قد يكون فعله صديقي ؟”
“مفيد… لا أعتقد ذلك، لكن أردتك أن تعلم فقط”
هنا أقفل سقراط الحوار قائلا : “إذا كان ما ستقوله لي ليس بالحقيقة الثابتة وليس بالفعل الحسن وليس فيه أية فائدة، فلماذا ترهق نفسك على هذا النحو ؟”
الحكاية الثالثة : ذئبان يسكنان داخل كلّ واحد منا
هذه حكاية شيخ كان يحدّث أولاده بأن كل واحد فينا يسكن داخله ذئبان تدور بينهما معارك دموية طاحنة دون هوادة لا تنتهي أبدا بالتعادل بين الخصمين :
الذئب الأول هو ذئب الحِكمة والاستقامة والصّفح والمروءة.
أما الذئب الثاني فهو ذئب الضغينة والعنف والغيرة والحسد والانطواء على النفس.
سأله أولاده حينئذ : “ومن ينتصر في هذه المواجهة العنيفة بين الذئبين يا أبي” ؟
أجاب الشيخ “ينتصر دائما الذئب الذي نسهر على إطعامه”.
ولذّة الحكاية لا تكمن فقط في طرافتها وعمق معانيها بل كذلك في ما يمكن أن تفتح عليه من ديناميكية في النقاش الشفوي الذي يتلوها وفائدة التمرين الذي من الممكن أن تُفضي إليه، وهو أن يُطلب من التلاميذ تدوين الحكاية كتابيا في أسطر قليلة والتعهّد بعرضها خلال الحصة الموالية.