هناك جملة من التوضيحات لا بد منها قبل التوغّل في هذه الورقة غير التقليدية لأنها محفوفة ببعض مخاطر سوء التأويل واعوجاج الفهم. أوّلا لا بد من التأكيد على أن القصد الأساسي ليس التشويه الممنهج كما تفعل عدة قوى سياسيّة أو الإساءة لأشخاص بعينهم وثانيا لأن اقتناعي شديد في نفس الوقت بأن التجرّؤ على إثارة مثل هذه المسائل على قساوتها هو أكثر من ضروري لأننا لا نستطيع التقدم باتجاه محاربة عديد التشوّهات وضمان عدم تكررها ما لم نواجهها بشجاعة ورباطة جأش.
____مثلا، نحن بصفة عامة (من هم محسوبون على إعلاء علاقتهم بتونس إلى درجة الأمومة المقدّسة) لا نَقْدِرُ على الإقرار بأن مؤسّساتنا العمومية كانت قبل الثورة على ملك السّلطة الحاكمة تفعل فيها ما تشاء وتوظفها كما تشاء وتسعى دوما إلى إلحاقها بمشاريعها وبرامجها السياسية، وتُقتسم فيها الكعكة غالبا بين الشعبة الدستورية والنقابة الأساسية في إجراء النُّقل وتوزيع الامتيازات وتقاسم التعيينات. أما بعد الثورة، فقد افتكّت النقابات (باسم قلعة حشاد وأحبك يا شعب والتصدي للتفويت ومقاومة الاستغلال الوحشي…) صلاحية الإشراف على هذه المؤسسات وراحت تمارس نفس ما كانت تمارسه السلطة قبل 2011. وبلغ استقواء النقابات حدّ الحلول محل سلطة الاشراف واتخاذ قرارات ليست من صلاحياتها مثل غلق المؤسسات التربوية وإقرار العطل في غير فصلها ورفض تعيينات ومُباركة أخرى…خاصة أن كل الذين حكموا بعد 2011 لا تُزعجهم كثيرا حالة الفوضى العامّة وتراجع أداء الدولة وسيادة منطق “ذراعك يا علاّف”.
____كذلك نحن لا نستطيع الاعتراف بأن القدرة على افتكاك مواقع نقابية انتخابيا (كما في نتائج الانتخابات عموما) لا يرتبط بمستوى الكفاءة ولا بالصدق في الدفاع عن مصالح المنخرطين بقدر ما يرتبط بمهارات أخرى مُنبنية على اعتبارات عروشية أحيانا وإتقان فنون الطريزة والخياطة أحيانا أخرى ويصل الأمر في بعض المواقع إلى البلطجة وشتى أنواع الممارسات الخسيسة.
____وأيضا لا تتوفر لدينا الجرأة الكافية في كثير من الأحيان على القول بضرورة إجراء فرز حقيقي يصنف التحركات الاحتجاجية إلى محورين متناقضين تماما : محور التحركات الأكثر من مشروعة التي تسعى إلى استرداد حقوق مسلوبة وفرض تلبية الحاجيات الأساسية للمواطنين والتصدي للتلاعب بالمال العام ومقاومة محاولات ضرب السيادة الوطنية من ناحية، ومحور ثان تمثله التحركات التي يقودها قطاع الطرق والصعاليك وقاطعو الأرزاق والزّعران بأصنافهم من ناحية ثانية.
____أمّا عبارة “المُعطّلون عن العمل” فيُقصد بها غالبا الذين رُفضت ترشحاتهم في الوظيفة العمومية تحديدا وليس من حالت طبيعة النسيج الاقتصادي ومناويل تطوير مؤسساتنا دون تمكينهم من تفعيل مهاراتهم وتثمين تكوينهم. وبالتالي فإن النسبة الحقيقية للبطالة في تونس أقل بكثير من النسبة المُعلنة لأن عددا كبيرا من الشباب في سن الشغل يرفض العمل في غير ما تكوّن فيه من اختصاصات… رأيت في الآونة الأخيرة رعاة فرنسيين وألمانا فخورين جدا بمواشيهم وأراضيهم وأجبانهم وديكتهم وإدامة تراث الأجداد، بينما شبابنا مازال يخجل من إعلان انتمائه إلى ريف قادر على تحدي عزوف الدولة عن إحيائه.
____كما لا نجرؤ على القول إن استنكار رداءة الواقع العام لا يُعفي من الوقوف على بؤس العقلية السائدة لدى شريحة واسعة من المواطنين المساهمين بفعالية قصوى في دفن قيمة العمل وتلويث البيئة ونشر ثقافة الرشوة والإثراء السريع وتدبير الراس وإهانة الفقير وتبخيس العلم وتبجيل المشعوذين وتقدير الخونة والمتعالين وبيع الضمائر واحتقار الذات …
____وأعتقد أيضا أنه علينا الإقرار بأن الاختلاف مع الخصوم ومع الناس عموما لا يُشرّع استدعاء كل ذلك القاموس من النّعوت البشعة من قبيل الجرذان والزواحف والخنازير والصراصير والضباع والديدان… مقابل أسود ولبؤات وكواسر وبلابل وسنونوات تُنشد الوطن والحرية.
____ولم لا نجرؤ على القول بأن الموظف (خاصة بعد الثورة مع ضرورة استثناء نسبة مهمّة من الموظفين المحترمين والنزهاء والذين يشفعون لبؤس المشهد الإداري بأكمله) أصبح يعتبر كرسيّه “ملك السيّد الوالد” يستغلّه بوحشية وجشع لابتزاز المواطنين وتصيّد الجميلات والتعويض على عاهات نفسية دفينة تغلغلت فيه لأنه لم يعالجها في الإبان بواسطة عُمق الثقافة والسّفر ومقارنة أدائه بأنداده في بلاد العالم ومعاقرة روائع السينما والأدب والتحليق خارج دائرة “وْحَيْدة شيشة بالجيراك ما يعطيهالك كان الخالق.” ؟
____من ناحية أخرى يتّفق كلّنا مع كلّنا أن الأمهات جديرات بكل آيات الحب ولكنّهن لسْن دائما على كل تلك الدرجة من القداسة والتأليه لأن العائدات من إدلب ومصراتة بكتيبة من الأطفال “الشرعيين” هن أمهات، ومروّجات الزطلة والأقراص أمام مؤسساتنا التربوية هن أمّهات، واللواتي تربّين أجيالا من الحاقدين والقنابل الموقوتة …هن أمهات. فجرعة من العقلانية والتّنسيب في “تخميرة” الاحتفال بعيد الأمّ لا بدّ منها.
____ نجرؤ كل يوم على إدانة رداءة المشهد الاعلامي ولكننا مواظبون على متابعة منشطين رصيدهم الوحيد القدرة على الاستثمار في الابتذال بالنسبة للذكور ومنشطات ليس لهنّ من رصيد غير ما وهبته إيّاهنّ الطبيعة … نُدين ونستنكر كل يوم ونحزن ولكننا لا نقرأ أكثر من ليلى والذئب، بل نكره الكتاب ولا نُدرك أننا نُربّي أبناءنا على ذلك من حيث لا نشعر.
____نمتنع أيضا عن الاعتراف (لأننا نخجل من صورتنا في المرآة) بأن التديّن لا يمنع من التّجاوز بشتى أنواعه بل روح المواطنة الحقّة هي التي تمنع، وأن الحجّ لا يغسل الذنوب بل الضمير، وأن التشبّه بالغرب فيما هو نيّر وإيجابي ومحفّز ليس جريمة بل أمرا محمودا وخاصة… أن كل هؤلاء الذين لا يشبهونك في تديّنك لم يطلبوا منك أن تتدخل لفائدتهم يوم القيامة.
وأقول في الأخير إننا لا نريد مواجهة رفضنا اللاواعي لحقيقة أنه بعد رحيلنا سيذكرون في نوع من الرياء الاجتماعي الموروث والمتأصل أننا كنا “ذوي دماثة أخلاق لا توصف” ولكن سيتذكّرون في سرّهم وفي الدوائر المغلقة كل بشاعاتنا وسيئاتنا وكل ما فعلناه في حقّ هذا الوطن والشعب.