جور نار

ما يُمكن أن يُقال …في مفتتح سنة أخرى للنجاح ومراكمة المعارف

نشرت

في

“مساعدة مبالغ فيها يمكن أن تؤدّي إلى الحلول محلّ أبنائكم حتى تجدوا أنفسكم تقومون بالواجبات المدرسية اليومية عِوضًا عنهم، ولكن مساعدة باهتة أو منقوصة أو منعدمة يمكن أن تُبقيهم سجناء صعوباتهم وفاقدين للقدرة على اللّحاق بقطار التعلمات السريع.”

<strong>منصف الخميري<strong>

قصّة الطفل لويس مهمّة، لكنها بحاجة إلى التنسيب :

طفل فرنسي يُدعى لويس كان لا يحب المدرسة وتميّز دائما بكونه خجولا وميّالا إلى العزلة ولا يتمتّع بأية سيولة في الكلام وأداء السّلام. كان لا يحب اللغة الفرنسية ولا مادة الرياضيات. عائلته الميسورة اجتماعيا “دخلتها غولة” لأن لويس سيكون في أسفل السلّم العائلي، خاصة أن شقيقه الأكبر زاول تعلمه العالي الهندسي بشكل متميز وأصبح يمثل مفخرة العائلة وحامل لوائها ؟ ظنّت عائلته في البداية أنه ضحية المقارنة بأخيه، لا شيء من هذا لأن لويس لا تعنيه المقارنات والنياشين المدرسية. خيّر في سنّ مبكّرة أن يُهيّئ لنفسه ما يُشبه الورشة الصغيرة في زاوية من منزلهم العائلي يفكّك فيها ويركّب ويتأمّل ويُجرّب… وعوض الذهاب إلى المدرسة اختار لويس أن يكون عاملا متربّصا في معامل سربولي للميكانيك الشهيرة.

هو لويس رينو Louis Renault الذي قدّم أول براءة اختراع وعمره لم يتجاوز 22 سنة وستتلوها 500 براءة أخرى … حتى أصبح على مرّ السنوات على رأس إمبراطورية لصنع السيارات ومحركات الطائرات والمدافع الحربية. لكن اسمه شاع خاصة بفضل سيّارات رينو التي غزت العالم بأسره.

وهو الذي قال سنة 1934 أمام التطوّر الهائل في شركة أندريه سيتروين “أنا سعيد جدا بأن يكون السيد سيتروين منافسا لي، لأنه يدفعك للعمل ويُجبرك على المُصارعة”.

هذا يعني أن لويس كان قادرا على “التعلّم” وبشكل جيّد … في 1908 حين كان العالم خاليا من الكتب والأدلّة المتخصّصة ووسائل الاتصال الحديثة واليوتيوب والهاتف المحمول … كانت طريقا وعرة وشاقّة جدا تنعدم فيها الإنجادات والمساعدات وتتكدّس فيها أطنان من المصاعب والتضييقات، إذ كان عليه أن يتعلم لوحده قوانين علم الميكانيكا ومبادئ التصرف والمحاسبة وإدارة الأعمال وقواعد اللغة الفرنسية وأساليب الرّسم والتصميم الفنّييْن (دون مساعدة الحاسوب كما هو الشأن اليوم).

المدرسة لم تكن بالنسبة الى لويس رينو السياق الأمثل لتعلّم ما كان مهووسا به ومُدركا أن فهمه للنجاح غير فهم المدرسة له وأن الذي كان يشغل ذهنه باستمرار لم يكن مشغل المدرسة التي تردّد عليها لبضع سنوات.  كان في حاجة إلى مربّع تعلّمي مختلف لكوْنه كان مختلفا. وكانت قوّته الأساسية تكمن في أنه اكتشف ذلك مُبكّرا وتجنّب بالتالي الوقوع في فخّ ” أعدادي ضعيفة ولم استطع التعلّم وفق انتظارات المدرسة والمدرّسين، إذن أنا سيّء وفاشل”. وهو نمط سلبي للتفكير غالبا ما تعتمده شريحة واسعة من التلاميذ الذين يعانون من صعوبات مدرسية مُعيقة ومهدّدون بالانقطاع في أية لحظة.

هذا لا يعني بطبيعة الحال أن المدرسة لا لزوم لها، وإنما ذلك يعني :

___ أن لكلّ واحد طريقته في التعلّم، لكن المدرسة بصورة عامة مازالت متشبثة بفلسفة للتربية تَنشُد عرْضا مُوحّدا ومنهجا موحّدا ونموذج نجاح موحّدا للجميع… فيتأقلم البعض ويتعبُ البعض الآخر حتى يتأقلم، وينسحب جزء آخر عدده غير قليل لأنه استحال عليه التأقلم.

___ أن المدرسة أفضل ما اكتشفته الانسانية إلى حدّ اليوم من أجل “تعليم المبادئ الأساسية للحياة الأخلاقية ونشر العلوم والمعارف” كما يقول المؤسّسون، لكنها في نفس الوقت إذا كانت إطارا جيدا وملائما بالنسبة إلى البعض من الذين نجحوا في التماهي مع متطلبات المدرسة واشتراطاتها، فهي ليست بالضرورة كذلك بالنسبة إلى البعض الآخر من الذين يرتبط القِسم في أذهانهم بالضّجر والملل وإضاعة الوقت.

وعليه، فإن المستقبل لن يكون لتدمير المدرسة وتجاوزها والادّعاء أن “اليوتيوب” أصبح أفضل مدرّس في العالم، وإنما على المدرسة أن تُغيّر فلسفتها للتربية وتُجهِد نفسها بدلا من إجهاد الآخرين وتحاول التكيّف مع خصوصيات الأفراد الذين يؤمّونها بدلا من إجبار المتعلّمين على “تكيّف” هم غير قادرين عليه.

ولها في لويس رينو وريتشارد برونسون (مؤسس شركة فيرجين) وستيف جوبس (مؤسس العملاق  آبل) وغيرهم… أمثلة لتلاميذ على قدر استثنائي من الذكاء والنّبوغ استبعدتهم المدرسة بــ “غبائها” وحكمت عليهم بالفشل ومسالك الانحراف المختلفة… لولا بعض الإصرار الذاتي والقدرة الفائقة لديهم ولدى أوليائهم على تحييد أصوات الإحباط وإبطال مفعولها.

ويبقى السؤال جاثما على صدور جميع المهتمّين بمثل هذه المفارقات المدرسية :  بأية وتيرة وأي انتظام وأي تواتر تَقدر المجتمعات على إنجاب نوابغ وذكاءات و”فلتات” تستطيع تحدّي المدرسة التقليدية/المعاصرة وانتهاج “السُّبل البِكر” كما يقول محمود المسعدي لإحراز النجاح والتفرّد ؟ وما هو العدد التقريبي لمن يستطيعون النجاح دون شهائد ؟ وما هي نسبة العلماء والمكتشِفين وروّاد الأعمال والرياضيين العالميّين الذين تألّقوا خارج أسوار المدارس والجامعات من مجموع ملايين المتعلّمين ؟

النسبة ضئيلة جدا بكل تأكيد والواقع يؤكّد العكس تماما، أي أن نسبة الذين يرتقون اجتماعيا بفضل المدرسة أكبر بكثير من الذين يرتقون بدونها. زد على ذلك أن أغلب الذين قاطعوا التعليم التقليدي ونجحوا كان لديهم ما يُعوّض بشكل قوي على غياب المدرسة : إمّا ذكاء وقّاد ومهارة استثنائية في مجال مخصوص أو مسالك تكوينيّة غير تقليدية أو عائلة عارفة جيدا كيف تُصقل المواهب وتُنمّى المهارات (عالم الرياضيات والفيزيائي آمبير  مُكتشف التليغراف الكهربائي كان والده مصرّا على تعليمه بنفسه، وبيار كوري صاحب جائزة نوبل في الفيزياء كانا والداه ثم صديق للعائلة وراء صعوده…)

فأي درس يمكن استنتاجه من خلال كل هذا في سياقنا التربوي التونسي ؟

في مجال التربية والتعليم بالذات، لا يمكن الادّعاء ـ دون السّقوط المُدوّي في أتون التنمية البشرية- بأن هنالك وصفات جاهزة للنجاح ومناويل أفضل من أخرى لتأسيس مدرسة خالية من العيوب وقادرة على إنجاح كل مرتاديها… ولكن بعد هذه المسيرة الطويلة لتجربة المدرسة العمومية والإلزامية وفي علاقة بما كنّا بصدده أعلاه، يمكن الاحتفاظ بالفكرة التالية :

غالبا ما يُبالغ المجتمع في مطالبة الأطفال والشباب بالعمل والتصرف والتفكير بشكل ينسجم تماما مع ما تطلبه المدرسة، ولا يُلحّ كثيرا في مطالبة هذه الأخيرة بتغيير أساليبها ومقارباتها حتى تنسجم تماما مع انتظارات وحاجيات كل المتعلّمين باختلافاتهم وتنوّعهم.  وانطلاقا من هذا، يمكن القول إنه لا يجب أن تكون المدرسة “فضاءً نموذجيا للمتفوّقين” ولا “مجرد منطقة عبور للناشئة يُحصّلون فيه ما (كْتِبْ من ربّي)” وإنما عليها أن تتحوّل إلى حقل واسع تُزهر في تُربته جميع النباتات ـ كلّ حسب حاجاتها وخصوصيّتها-ـ ولا يُترك فيه أحد على حافّة الطريق.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version