كنت ولم أزل وسأبقى أرفض ثقافة “الأقربون أولى بالمعروف”، لأنني اؤمن بأن المحتاجين، بمن فيهم من أساء إليك، هم أولى بمعروفك!
العامل الوحيد الذي يحدد لمن تمنح معروفك هو حاجة الآخر، نوعيتها وكميتها ومدى خطورتها على حياته.أما ثقافة “الأقربون أولى بالمعروف” فهي مبنية على العصبية القبلية والعنصريّة الدينية، كافرازات لتعاليم بدوية رعوية ابتلينا بها، والتي تطالبك أن تنصر أخاك ظالما أو مظلوما.
هي أيضا وراء الفساد الذي ابتليت به مجتمعاتنا، فكل من اقتنص فرصة، كأن يستلم منصبا، لهف الدجاجة وبيضها ومصعها، وجرّ إلى القن كل الثعالب والذئاب حسب درجة قرابتها به، معتمدا على مبدأ “الأقربون أولى بالمعروف”، و متجاهلا حق الآخر فيما غنم!
ليس هذا وحسب، بل أن العطاء للأقارب (حصرا) هو الأسوأ مردودا لكلا الطرفين!
مع ملاحظة هامة جدا: إن ما أعنيه بالقرابة هنا هو أي اعتبار يقرّبك من غيرك دون سواه،سواء كانت قرابة دموية أو عرقية أو دينية أو طائفية أو ما شابه ذلك.
في تلك الحالة، الآخذ ينتابه إحساس بأنه أولى وأحق بما أخذ، إذ أن من واجب قريبه أن يعطيه، ولذلك لا يشعر يوما بالامتنان، فثقافتنا البدوية نفسها بُنيت على أساس “لا شكر على واجب”!
وعندما يغيب الشكر والامتنان تغيب معه النعمة وتشحّ الحياة!
هذا من ناحية الآخذ، أما من ناحية الذي يعطي فيتوهم أنه قام بواجبه، لأنه ـ بناء على العرف السائد ـ قد نصر أخاه أو قريبه،ذ لك الوهم الذي يقتل لاحقا انسانيته، وينصب جدار اسمنتيا بينه وبين ضميره!
اعطِ قريبك المحتاج لأنه محتاج، وليس لأنه قريبك،فالمعروف يُعطى للمحتاجين بما فيهم الأقرباء!
أهل الحاجة هم الأهم، والحاجة هي وحدها التي تحدد لمن تعطي، وبدون أي اعتبار آخر.
من ناحية أخرى، جميل أن تشكر وتمتن لمن أعطاك، لكنك لست ملزما بأن ترد الجميل،وليس من حق الذي يعطي أن ينتظر شيئا بالمقابل، و إلا فالعطاء ديْن أو صفقة، وليس كرما أو لسد حاجة!
………………
كم مليون مرة رددنا في مراحل حياتنا بيت المتنبي:
إن أنت أكرمت الكريم ملكته….وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وكم انتشينا فرحا من “الحكمة” في هذا البيت من الشعر، حتى صار جزءا لا يتجزأ من ثقافتنا القاحلة.
هذا البيت يبرهن على أن من حق الذي أعطى أن يستعبد من أعطاه، نعم أن يستعبد، فأنت عندما تملك شخصا تستعبده!
الإنسانية تقتضي أن لا يملك أحد أحدا، وأبشع أنواع العبودية أن تملك شخصا من خلال عطائك له.
ويلغي أيضا حق الآخذ في أن يتمرد، فالعطاء الذي تلقاه قيّده إلى الأبد من رجليه ويديه!
عندما تتوقع من الشخص الذي تعطيه أن يكون عبدا لك، ويحني رأسه أمامك،فلا منة لك في عطائك!
كذلك، عندما تفرز الناس بين كريم ولئيم بناء على ردهم لجميلك، فأنت لم تصنع جميلا، والكريم في تلك الحالة هو الذليل الذي باع حريته مقابل عطائك!
اعطِ و انْسَ من أعطيت وماذا أعطيت، هذا هو الكرم، وهذا هو العطاء الحقيقي الخارج من القلب.
………………
في الفلوكلور الهندوسي تقول قصة: إن ملكا كان يغادر قصره ليتفقد أوضاع الرعية,فلمح فقيرا يلبس ثيابا رثة ويرتجف من البرد.خلع الملك معطفه وناوله للفقير.
بعد اسبوع خرج الملك مرة ثانية، وإذ به يلمح نفس الفقير يرتجف من شدة البرد بلا معطف.
لما سأله عن معطفه، رد: لقد تبرعت به لشخص آخر،لأنني شعرت أنه أحوج مني إليه.
استشاط الملك غضبا، وقال: أنا أعطيتك إياه، وكان عليك أن تحتفظ به.
رد الفقير: عندما تعطي شيئا يصبح ملكا للآخر، وليس من حقك أن تتحكم فيه!!
أليس جوابه تمردا على محاولة إهانة واستملاك؟!!!
………………
لا تعطِ بغية أن تستملك، كي لا تخسر نبلك و يفقد العطاء معناه.
تذكر أنه ليس بين المحتاجين كريم ولئيم، بل هناك إنسان يعيش حالة عوز مؤلم، وعطاؤك سيخفف من حدة ألمه!
تخفيف الألم هو الغاية النبيلة الوحيدة من وراء العطاء.
نحن ملزمون أن نعيد صياغة العقلية الرعوية التي شوهت معنى العطاء، وفرّغته من جوهره،والتي ابتلينا بها
… عندها ستصبح الرحمة طريقة حياة، وستزهر الصحراء!!!