تابعنا على

يجل نهار

محمد الأطرش: المشيشي يرفض الحرب بالمناولة…

… و يؤجل توزيع غنائم الحكم، إلى يوم اعتراف قرطاج بــ”باي” القصبة !

نشرت

في

يسألك بعضهم هل ستخرج تونس من الوضع التي تردّت فيه؟ وأقول كيف تخرج وجميعهم يراوحون مكانهم؟؟ أسئلة عديدة تطرح نفسها اليوم حول مآل ما تتخبّط فيه البلاد…فهل سينجح الغنوشي في البقاء على كرسي باردو؟؟ وهل سيحافظ المشيشي على موقعه في القصبة؟ وهل يواصل ساكن قرطاج سياساته الحمقاء و يجرّ البلاد إلى ما لا تحمد عقباه؟ كلها أسئلة ترتبط إجاباتها بعضها ببعض وكلها أسئلة قد تذهب بنا إلى إجابة واحدة …

عن مّاذا يبحث الغنوشي يا ترى؟

محمد الأطرش Mohamed Alatrash
<strong>محمد الأطرش<strong>

يصرّ بعض المتابعين على القول بأن الغنوشي يبحث فعلا وبكل الطرق عن قيادة البلاد وحكمها والتربّع على عرش باردو والقصبة معا حتى نهاية هذه العهدة….وأعود لأقول هنا إن الغنوشي لا يبحث عن ذلك علنا وبالشكل الذي يروّجه البعض، بل يبحث فقط كيف يخرج من هذه العهدة سالما، وكيف يجنّب حركته السياسية التآكل قبل موعد الانتخابات القادمة وكيف يخرج من هذه العهدة دون أن تتحمّل النهضة تبعات فشلها المعلن، وكيف يخرج وكل خصومه في وضع لا يهدّد وجود حركته…هذا ما يبحث عنه الغنوشي لكن كل هذا يمرّ عبر كسب معاركه التي كثرت وأصبحت الخبز اليومي لهذا الشعب، ولن يمكن تحقيقه دون أن ينجح الغنوشي في خلط الأوراق مرّة أخرى في المشهد السياسي المتعفّن…

ومعركة الغنوشي الأكبر هي طبعا الحفاظ على كرسي باردو وهذه تعتبر أيسر معاركه الحالية وربما القادمة لأنها ستكون حرب استنزاف يشنها عليه خصومه كلما دعت لذلك الحاجة، فالغنوشي درس جيدا ما يريده خصومه في المجلس وعرف كيف يشتّت شملهم ليجنب نفسه النزول عن كرسي باردو، الغنوشي نجح بمساعدة غباء وحمق بعض الأحزاب وكتلها النيابية في أن تكون النهضة “جوكير” هذه العهدة وملح طعامها، فلن تشكّل حكومة دون النهضة ولن ينجح المجلس في تركيز المحكمة الدستورية دون النهضة ولن يمرّ أي قانون دون موافقة من النهضة هكذا فعل الغنوشي بالمجلس وجعله رهينة بين كفيه…

لسائل أن يسأل وكيف ذلك؟ خلاصة الإجابة، لا أحد اليوم من نواب وكتل المجلس يريد ويتمنى حلّ المجلس وتنظيم انتخابات سابقة لأوانها، فانتخابات في وضع كالذي تعيشه اليوم تونس، وكالذي تعيشه أغلب الأحزاب لن يغيّر حال البلاد وحال المشهد كثيرا وقد يذهب ببعض الأحزاب إلى أرشيف المشهد وتصبح في عداد ضحايا هذه العهدة…وقد يذهب بعض النواب إلى السجن يوم ترفع عنهم حصانة المجلس بعد حلّه…وقد يكتشف الجميع كذبة عمليات سبر الآراء يوم يقع الإعلان عن نتائج انتخابات سابقة لأوانها…كلها فرضيات وجب أخذها بعين الاعتبار وعدم إغفالها…

فالغنوشي نجح في أن يجعل من كتلة قلب تونس كتلة الحلّ والربط في كل ما يقع بالمجلس، و هكذا أصبح إنزال الغنوشي يمرّ عبر تصويت كتلة قلب تونس…وإسقاط حكومة المشيشي يمرّ عبر تصويت كتلة قلب تونس…و إسقاط بعض القوانين أو مرورها يمرّ عبر أصوات نواب قلب تونس…فالغنوشي صنع متعمدا من كتلة حزبٍ رئيسُه يقبع في السجن بشبهة الفساد، الورقة الأهمّ في مجلس باردو، و مصير المشيشي اليوم يرتبط أساسا بأصوات كتلة قلب تونس…وسحب البساط من تحت أقدام الغنوشي يمرّ عبر أصوات نواب قلب تونس…فالوضع الحالي للمشهد السياسي لن يتغيّر ما لم يقع فكّ الارتباط بين كتلتي النهضة وقلب تونس وأحوازهما…

ولن يقع فكّ الارتباط بالسهولة التي يتصوّرها البعض فالمصالح المشتركة بين الكتل الداعمة لساكن القصبة أكثر من تلك التي تربط بين من يعارضها وبينها وبين بقية الكتل المكوّنة لمجلس باردو…والمصالح المشتركة بين كتلتي النهضة وقلب تونس أقوى بكثير من تلك التي تربطهما ببقية الكتل…فمستقبل الشيخ على رأس المجلس يمر عبر توطيد الارتباط مع كتلة قلب تونس وأحوازها، والحفاظ على تماسك كتلة قلب تونس يمرّ عبر توطيد الارتباط مع كتلة النهضة والبقاء ضمن الحزام المساند والداعم لحكومة المشيشي…فالمصير المشترك الذي يجمع من هم حول المشيشي اليوم سيمنعهم من فكّ الارتباط بين بعضهم البعض…

والواضح من هذا الارتباط الوثيق بين الكتل المكونة لحزام الحكومة السياسي أن المشيشي اصبح أيضا مكوّنا أساسيا من مكونات هذا الارتباط، فهذا الأخير لن يعود إلى حضن من رشحه لكرسي القصبة  أبدا ولن يفكّر في الأمر أصلا، فحزام حكومته اليوم يوفّر له ما لا يمكن أن يوفره له حضن ساكن قرطاج و”مديرة” ديوانه… كما أن الغنوشي لا يريد أن يغيّر ساكن القصبة لغايات في نفس راشد…فالنهضة لن تغامر ولن تكون سعيدة كما يتصوّر البعض في حال عودة ورقة ترشيح من سيسكن القصبة إليها، و النهضة أدركت قبل الجميع صعوبة المرحلة التي تمرّ بها البلاد…وتدرك حجم الخسائر التي ستلحق بمن سيسكن القصبة ومن سيقف خلفه لذلك لن تغامر بتغيير ساكن القصبة مهما كانت الإغراءات …

فالحراك الاجتماعي الذي تشهده البلاد اليوم قد يصبح في قادم الأشهر جحيما لا يطاق وقد يأتي على الأخضر واليابس، والنهضة لا تريد تحمّل تبعات ذلك بمفردها بل تريد أن يشاركها الجميع في اسقاطات ذلك على مستقبل البلاد وخاصة على نتائج الانتخابات القادمة التي ستكون حتما مقبرة للكثير من الأحزاب الممثلة اليوم في مجلس باردو…النهضة وبقيادة رئيسها قرأت جيدا ما يدور في رأس المشيشي وعرفت أنه الشخص التي تتوفر فيه مواصفات من ستحمّله تبعات كل الفشل القادم…خاصة أنها لم تكن وراء اختياره لكرسي القصبة بل كان اختيارا لساكن قرطاج وسيحسب عليه حتى وإن أصبح ابنا ضالا في نظر هذا الأخير…لكن هل يمكن أن تغدر النهضة بالمشيشي في الوقت الحاضر وتقترب من ساكن قرطاج ومن هم حوله…وهل يمكن أن تقبل بتحالف جديد يستثني قلب تونس وبعض من هم معها اليوم؟ الإجابة هي “لا يمكن”…

فالنهضة لن تقترب من ساكن قرطاج دون أن تكون الرابح الأكبر من ذلك، ولن يكون ذلك الاقتراب ممكنا دون أن تقترب أيضا ممن هم اليوم مع ساكن قرطاج وأقصد التيار وحركة الشعب، وهذا لن يكون ممكنا ما لم يقع فكّ الارتباط بين النهضة وقلب تونس ومن معه، فقلب تونس جاء ليعوّض الكتلة الديمقراطية وأحزابها بعد القطيعة التي حصلت أثناء جلوس الفخفاخ على كرسي القصبة، ولن يكون التقارب مع التيار وحركة الشعب ممكنا دون أن تتنازل النهضة تنازلات في حجم أطماع التيار وحركة الشعب وساكن قرطاج وربما البعض الآخر وأطماع هؤلاء كبيرة جدا وقد لا تترك للنهضة نصيبا…وقد تشهد الساحة السياسية في قادم الأيام مراودات متبادلة بين جميع الأطراف لغاية في نفس كل طرف منهم…وقد يروّج هؤلاء وأولئك عن تقارب قريب…وعن قصّة حب بين النهضة وبعض الأطراف القريبة من قرطاج…لكن هل ستنتهي كل تلك القصص بالزواج…لا أظنّ…

المشيشي، الرابح الأكبر من المعارك التي تدور حوله..

يدرك الجميع أن المشيشي لا يمكن أن نعتبره شخصية سياسية، ولا يمكن أن نصفه بالرجل القادر على إصلاح الأوضاع المتأزمة بالبلاد، كما لا يمكن أن ننتظر منه نجاحا أو حتى إصلاحا بسيطا لحال البلاد…فالرجل قد يكون رئيسا جيدا لمصلحة بإحدى المؤسسات العمومية أو كاتبا عاما لإحدى الولايات ليس أكثر، لكنه ورغم كل ذلك فهو الرابح الأكبر والمستفيد الوحيد من كل ما يدور اليوم حوله، والغريب في هذه المعادلة الصعبة أن الجميع أعلنوا الحرب على الجميع من أجل كرسي يجلس عليه المشيشي ولا يريدون الجلوس عليه…فالقدر أتى به إلى كرسي لن يغامر أحد بطلب الجلوس عليه في وضع كارثي كالذي تعيشه تونس اليوم،

فهذا الكرسي قد يصعد بك إلى السماء لو نجحت في إصلاح ولو بسيط لأوضاع البلاد، وقد يذهب بك إلى السجن لو أخطأت ولو خطأ صغيرا، وقد يصيبك بكل أمراض العصر بسبب الضغوطات التي ستعيشها…والوحيد الذي يريد إنزال المشيشي من كرسي القصبة هو ساكن قرطاج والأحزاب التي تدور في فلكه وهؤلاء يتمنون ذلك ويطالبونه بذلك، فقط لأنهم أخرجوا من الحكم بخروج الفخفاخ من القصبة ويدركون جيدا أن الفرصة قد لا تتاح ثانية ليكونوا في الحكم مرّة أخرى…رغم كل هذا لا أظنّ أن المشيشي سيفرّط في فرصة أرادتها له الاقدار، وكأني به يدرك ما يعنيه بيت شعر يقول “من أمكنته فرصة فأضاعها، وأستعتب الأيام فهو المعتدي” …

والمتابع لما يفعله المشيشي اليوم يدرك لأول وهلة أن المشيشي بدأ مرحلة كسب ودّ من هم حوله وودّ من يمكنهم الوقوف معه في قادم الأيام والاشهر إن كتب لحكومته الصمود في وجه العواصف التي تلوح مدمّرة في قادم الأيام…المشيشي أدرك أن حزامه السياسي لا يريد تركه لمصيره الآن، ومتمسك به وخاصة حركة النهضة فتركه لمصيره في هذه الفترة سيعتبره المتابعون لما يدور في البلاد انتصارا لساكن قرطاج وهذا سيضرّ بأحزاب الكتل الداعمة قاعديا وجماهيريا…كما يدرك المشيشي أن اتحاد ساحة محمد علي وخاصة أمينه العام يبحث عن إطالة عمره التنظيمي وعمر عهدته على رأس الاتحاد، ولن يكون ذلك ممكنا دون أن يوفر له بعض آليات “الرضاء” والقبول لدى قواعده وهياكله من خلال الإمضاء على عشرات الاتفاقيات القطاعية المعطّلة بالجملة ولسان حاله يقول “اعطه ألف درهم يا كعلي…وغدا نأخذها أضعافا” مخاطبا وزير ماليته وقاصدا بما يعنيه أمين عام الاتحاد…

فالغنائم التي كسبها الطبوبي أخيرا من ساكن القصبة رغم أنها مؤجلة التنفيذ لم يغنمها من غيره في وقت قياسي كالذي مرّ من عمر حكومة المشيشي، وفي وضع اقتصادي مأزوم وقابل للانفجار في كل لحظة، وتحت طائلة شروط ملزمة من صندوق النقد الدولي بالتخفيض في كتلة الأجور والحدّ من انتفاخها المتواصل منذ عشر سنوات…فهذه الاتفاقيات المجدولة زمنيا ستُخرج الطبوبي من ورطة الإمضاء على هدنة مشروطة للدخول في حوار وطني يعطي شرعية البقاء للطبوبي وبعض من معه، وإطالة عمر وجودهم النقابي والسياسي بالمشهد العام للبلاد التونسية…

أما عن تعامل المشيشي مع التحوير الوزاري الذي أجهضه ساكن قرطاج فلن يكون صداميا في قادم الأيام وقد يلتزم الصمت وعدم الردّ عن كل ما سيصدر من ساكن قرطاج ومن يدور في فلكه لغايتين…الأولى هي أنه أدرك أن ساكن قرطاج يمر بفترة عصيبة على المستوى النفسي وقد تتكرر الأخطاء الصادرة عنه وعمن هم حوله، وقد تتوسع رقعة المنتقدين والرافضين لتصرفاته وهو الأمر الذي قد يضطرّه إلى القبول بالأمر الواقع والعمل على إنهاء بقية تفاصيل التحوير الوزاري المجهض منذ أكثر من نصف شهر للحدّ من تصاعد الأصوات المرتفعة ضدّ تصرفاته الرعناء وغير المسؤولة خاصة وأن أي ردّ صدامي من القصبة على تصرف خاطئ من ساكن قرطاج سيُخسر ساكنها نقاطا هو في حاجة أكيدة إليها اليوم…

والغاية الثانية هي أن المشيشي ادرك أيضا أنه يقوم بحرب بالمناولة ضدّ ساكن قرطاج نيابة عن النهضة ورئيسها، وأن هذه الحرب ليست حربه لوحده كما تروج النهضة لذلك بل هي حرب كل مكونات الحزام السياسي الذي لا يريد أن يكون بعيدا عن حكومته، خاصة أن ساكن قرطاج يريد أن يستأثر بالحكومة وإبعاد من لا يريدون العيش تحت مظلته…فالمشيشي أدرك أخيرا أنه ليس الوحيد المعني بهذه الحرب ضدّ ساكن قرطاج وأن على كل من يشكلون حزامه السياسي المشاركة في هذه الحرب بالعدّة والعتاد وكسبها سريعا قبل المطالبة بنصيبهم من غنائم الحكم…وهذا يعني أن المشيشي قد يعطّل أو يؤجّل كل توزيع لغنائم الحكم إلى ما بعد كسب معركة التحوير والاستقرار الحكومي وتهدئة الأجواء مع ساكن قرطاج ويرفض أن يكون الجندي الوحيد في حرب قد يكون هو الخاسر الأكبر فيها إن خسرها…

وفي انتظار أخطاء قاتلة أخرى من ساكن قرطاج سيواصل المشيشي صمته ولامبالاته عن كل ما يحاك ضدّ حكومته …وقد يأتي الخطأ القاتل من ساكن قرطاج ويضطرّ إلى رمي المنديل والإعلان ضمنيا عن خسارته حرب “نادية وهشام”…

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

منبـ ... نار

الدين في جوهره ليس مادة للتندر، ولا منصة للتعالي… بل رسالة هدي ومواساة

نشرت

في

رضا الحديدي*:

المأساة تكمن في مشهد الأزمة الأخلاقية التي يعيشها الخطاب الديني حين تحول إلى استعراض لا يحمل من الدين إلا مظهره.

وحين نجد ظاهرة تغليف الخطاب الديني بالدراما والإثارة، وتختلط في حضوره الدعوة بالنكتة، والوعظ بالسخرية، والفتوى بالتجريح، نتساءل هل أصبح الداعية نجمًا ينافس نجوم الكوميديا؟ وحين نفقد الفرق بين الواعظ والمهرج، بين الحضور الروحي والعرض الدرامي وعندما تُقاس فاعلية الخطاب بعدد المشاهدات لا بعمق الأثر، فإننا لا نلوم الرمز وحده، بل نُدين ذائقة جماعية تسهم في خلقه وتغذي غروره.

لقد شكّل برنامج الداعية المثير للجدل الأخير، لحظة فاصلة في وعي الكثيرين، لما مثّله من انحدار في الذوق، والاحترام، والرسالة المفترضة . ان الرجل لا يفتقر إلى العلم، ولا إلى الشعبية. لكن المعضلة ليست في قدرته على جذب الانتباه، بل في طريقة تقديمه للدين كعرض سريع مختلط بالنقد اللاذع والتعالي أحيانًا.

حين يصبح الداعية محور الخطاب، لا الدين ذاته. فيتحدث من علٍ، ويصنف الناس بتعليقات تحمل في طياتها تهكمًا مبطنًا، وأحيانًا ازدراءً واضحًا، دون إدراك لوقع كلماته أو مدى تاثيرها علي الذوق العام وإيذائها له. تتحول فتاواه إلى مادة للسخرية،

هذا الأسلوب الذي يخطف الاهتمام، يخفي داخله أزمة عميقة: تغليب الشكل على الجوهر، والصوت المرتفع على العقل الهادئ. هذا التضخم لا يأتي من فراغ، بل من شعور داخلي بأن الجمهور سيظل في حالة تصفيق، حتى مع الانزلاق في الأسلوب، هنا نرى كيف تتحول الدعوة إلى عرض جماهيري، لا حوار روحاني.

السوشيال ميديا ضاعفت من حضور هذه النماذج ، لأنها تستهلك المحتوى المثير بسرعة، وتعيد نشره آلاف المرات، مما يغذي “شهوة الظهور” عند البعض ولم يكن في الحسبان السؤال هل هذا الخطاب يخدم الدين؟” بل : “هل يجذب الأرقام؟” وهنا تكمن الكارثة.

فالمعايير أصبحت ترند، مشاهدات، تفاعلا، لا محتوى أو تأثيرا حقيقيا. لكنها في الوقت نفسه، سرعان ما تنقلب عليهم. الجمهور الذي يرفعك في فيديو، قد يسحبك إلى القاع في هاشتاغ. ولأننا أدمنّا الترفيه باسم الدين، وتركنا الحكمة خلف الشاشات. تم تهميش القيم ، وإعلاء صوت من يجيدون “اللعب على الشاشة”، حتى لو كان الثمن تهشيم قيم أساسية.

لكن من الظلم تحميل الشخص وحده مسؤولية السقوط دون الحديث عن البيئة التي صنعته، مسرح التهليل و المنصات التي فتحت له الأبواب، رغم تكرار انزلاقاته اللفظية والسلوكية. ما حدث مع هذا الداعية هو مرآة لما يحدث في المجال العام . قلة في التفكير النقدي، وفائض في رد الفعل. لم يسقط الرجل لأن خصومه أسقطوه، بل لأن الحقيقة أسقطته. لأنه استهلك رصيده الأخلاقي على مدى سنوات، حتى جاء الانفجار.

إن الجمهور الذي لطالما ضحك أو صفّق، بدأ يرفض. وهنا يكمن الأمل. فهذا بحد ذاته بداية نهوض جماعي من سبات تقديس الشخصيات، واستعادة سلطة العقل.

لا يكفي أن نغضب بعد السقوط. الأهم هو أن نراجع المعايير التي تُبنى بها الرموز في حياتنا: من نمنحهم المنابر؟ وبأي خطاب نقبل؟ وما الذي نصمت عنه؟ وأن تكون القاعدة: من لا يقدر على تمثيل القيم، لا يحق له الحديث باسمها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أديبة مصرية

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 112

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في علاقتي بالاشخاص عموما كنت ومازلت اعطي اهمّية قصوى لنظرة العيون… لا ادّعي فراسة كبيرة في ذلك لكن ربما هو بعض مما جاء في اغنية الكبير محمد عبدالوهاب (حكيم عيون افهم في العين وافهم كمان في رموش العين)… طبعا مع بعض الاحتراز على كلمة حكيم…

عبد الكريم قطاطة

فقط نظرة العيون في مراحل عديدة من حياتي وفي علاقاتي كانت النافذة الاولى للتعرّف احساسا على ما تحمله تلك العيون من صدق او نفاق او من مواقف باهتة لا روح فيها… يوم التقيت مع زميلي وصديقي الصادق بوعبان ونظرت الى عينيه احسست بامرين… الاول انّ الصادق كان صادقا في إقدامه على محاولة الصلح بيني وبين مديري… والامر الثاني وهذا ما حدث بعد ذلك في اللقاء، انه اراد ان يكون محتوى لقائنا بعيدا عن التصعيد منّا نحن الاثنين… وقبل ان نجتمع رجاني (بالكشخي) قائلا: خويا عبدالكريم رجاء ما تصعّدش، وساقول نفس الشيء لسي عبدالقادر … اجبته: داكوردو اما بشرط انّو سي عبدالقادر يتحدّث عنّي باحترام ولا يفتري عليّ… طمأنني سي الصادق وذهب لمقابلة مديري في مكتبه قبل اللقاء الثلاثي…

بعد ربع ساعة تقريبا هاتفتني كاتبته في تلك الفترة (الزميلة فاطمة العلوي) بالقول: سي عبدالقادر يحبّ عليك في بيروه… فاطمة هي السكرتيرة الرابعة للمدير بعد ان قام بطرد ثلاث قبلها… وميزة فاطمة انها كانت تعمل مع رئيسها بكلّ انضباط واخلاص… وانا احترم هذه النوعية من السكرتيرات، وللامانة كذلك كانت سكرتيرتي وزميلتي سامية عروس بمصلحة البرمجة وزميلتي وسكرتيرتي نعيمة المخلوفي رحمها الله بمصلحة الانتاج التلفزي، كانتا في منتهى الوفاء والاخلاص لي رغم كلّ الاغراءات التي سلّطت عليهما ليكونا (صبابّة) لاعوان المدير …

دخلت مكتب المدير، صافحته بادب واحترام وبدا زميلي الصادق بخطابه متوجها لنا الاثنين… خطابه كان منذ البداية واضح المعالم ومبنيّا على عنصرين مفصليّين اولهما الاشادة بمحاسن كل واحد فينا وحاجة اذاعة صفاقس لكلينا… والعنصر الثاني تحاشي الجدال في كلّ ما وقع بيننا اذ لا طائل من ورائه… وكانت اخر كلماته وهو يتوجه لنا هل انتما مستعدان لطيّ ملفّ الماضي وفتح صفحة جديدة من اجل مصلحة الاذاعة لا غير؟.. وطلب مباشرة موقف مديري من رجائه كوسيط بيننا… سي عبدالقادر ودون تردّد كانت اجابته كالتالي: والقرآن الشريف ومنذ هذه اللحظة انا طويت صفحة الماضي وفتحت صفحة جديدة مع سي عبدالكريم… استبشر خويا الصادق بهذا الامر وقال لي: اشنوة رايك خويا عبدالكريم؟ صمتُّ للحظات وقلت: ارجو ذلك ان شاء الله…

لماذا كان ردّي مختصرا للغاية وفيه نوعا ما من الشكّ في ما قاله مديري ؟ اجيبكم… هل تتذكّرون ما قلته لكم في بداية الورقة حول نظرة العيون ؟؟ نعم كنت طوال الجلسة الثلاثية انظر واتفحّص جدا عينيْ مديري… نعم انّ بعض الظنّ اثم … ولكنّ نظراته لم تكن مُريحة وهو اقلّ ما يُقال عنها… تصافحنا جميعا وتمنّى لنا زميلي الصادق بوعبان تكليل محاولته الصلحية بالنجاح… وغادرت معه مكتب المدير وما ان ابتعدنا عن مكتبه حتى قال لي الصادق: علاش نحسّ بيك شاكك في نوايا سي عبدالقادر ؟ قلت له حدسي لم يرتح له وارجو ان يكون حدسي كاذبا…

ودّعت الصادق وذهبت الى مكتبي بوحدة الانتاج التلفزي… لم البث اكثر من ربع ساعة حتى اعلمتني سكرتيرتي نعيمة رحمها الله انّ منشطتين من اذاعة الشباب جاءتا لمقابلتي… استقبلتهما بكلّ حفاوة ويا للمفاجأة… اتضح أنهما مستمعتان ومراسلتان لعبدالكريم في برامجه منذ اكثر من 15 سنة… واليوم اصبحتا زميلتين في اذاعة الشباب… عبرت لهما عن سعادتي وفخري بهما وطفقتا تطنبان في فضلي عليهما حتى في اختيارهما لمعهد الصحافة وعلوم الاخبار بعد الباكالوريا تاثّرا بي وبرسالتي الاعلامية… وبلّغتاني تحيات بعض اساتذتهما لي وتقديرهم لمسيرتي المهنية (عبدالقادر رحيم، منصف العياري ، رشيد القرقوري، الصادق الحمامي…) وبعد يجي واحد مڨربع مللي قال فيهم المتنبي وهو يهجو ذلك الكافور المخصي (وقدره وهو بالفلسين مردود) ويقلك اشكونو هو عبدالكريم واش يحسايب روحو ؟؟ اي نعم هذا ما تبوّع به البعض عنّي… واقسم بالله اقول مثل هذا الكلام واخجل منكم جميعا لانّي لا احبّ والله ايضا لا يحبّ كلّ مختال فخور…

انا لم ادّع يوما انّي فارس زمانه الذي لا يُشقّ له غبار… لكن على الاقلّ اجتهدت وعملت ليلا نهارا وتعبت وكان ذلك في فترات طويلة على حساب زوجتي وعائلتي وارجو منهما ان يغفرا لي… وما قمت به في اذاعة صفاقس كان واجبي ولا انتظر عليه لا جزاء ولا شكورا… اما توجع وقت تجيك من انسان مديتلو اليد واحطت بيه ووقفت معاه وعلى مستويات عديدة وهو اصلا لم يصل الى مرتبة خُمُس منشط او هي لم تصل ثُمُن منشّطة، ويتجرّا يقول تي اشكونو هو عبدالكريم واعيد القول انا اوثّق للتاريخ لكن انا مسامحهم دنيا واخرة …

اعود للزميلتين من اذاعة الشباب طلبتُ منهما كيف استطيع خدمتكما في ما جئتما من اجله… ابتسمتا وقالتا جئنا من اجلك يا استاذنا… ولغة اعيُنهما كشفت لي عن حديث او احاديث لهما رايتها بقلبي قادمة في الطريق… ولم تخذلني مرة اخرى لغة العيون اذ عبّرتا عن سعادتهما بانّ ادارة اذاعة الشباب وافقت على سهرة خاصة من استوديوهات اذاعة صفاقس يقع فيها تكريم الاعلامي عبدالكريم قطاطة وموعد السهرة هو الليلة من العاشرة ليلا الى منتصف الليل… شكرت لهما حركتهما النبيلة معبّرا عن سعادتي وشرفي بنزولي ضيفا على مستمعتيّ… زميلتاي شكرتاني على كلّ شيء واستأذنتا الذهاب لمديري لشكره على منحهما استوديو وفنّيا لاتمام المهمة وودّعتاني على امل اللقاء في الموعد في الاستوديو… اي العاشرة ليلا لذلك اليوم …

الساعة انذاك كانت تشير الى منتصف النهار… كدت اغادر المكتب للعودة الى منزلي (واللي فيه طبّة عمرها ما تتخبّى، وين المشكل مادامني معروف عند مديري بعدم الانضباط في القدوم الى الاذاعة و في مغادرتها ؟؟ خاصة ونحن اليوم ومنذ سويعة ونصف بدأنا صفحة جديدة في علاقتنا… وبالقرآن الشريف زادة… لكن كان هنالك حبل سرّي خفيّ شدّني الى مقعدي في مكتبي… احسست بنوع من الانقباض لم ادر مأتاه… استعذت من الشيطان دون ان اغادر مكتبي… وماهي الا عشر دقائق حتى عادتا اليّ زميلتا اذاعة الشباب وعيونهما توحيان بامر ما قد حدث… كانتا واجمتين وصمتهما كان ثقيلا ايضا ولكنّه كان يحمل اشياء وسترون كم هي ثقيلة ايضا…

تقدّمت احداهما وهي ماسكة شجاعتها بيديها كما يقول المثل الفرنسي وسالتني… يخخي ما زلت متعارك مع سي عبدالقادر عقير مديرك ؟؟ قلت بهدوء وبكثير من الرصانة: لا في بالي توضحت الامور منذ هذا الصباح وطوينا صفحة الماضي ..وسالتهما: يخخي صارت حاجة بينكم وبينو توة وقت شفتوه ؟؟ نتبادلتا النظر وكأنّ كلّ واحدة تقول للاخرى (ايّا قللو اشنوة اللي وقع.. تي اتكلّم يا سخطة انا والله لتو لفهمت شيء)…تكلمت احداهما وقالت (شوف يا سي عبدالكريم انت عزيز علينا ومكانتك ما ياخذهاش لا سي عبدالقادر ولا غيرو… احنا طول عمرنا يستحيل ننساو فضلك علينا ولهذا نحكيلك شنوة اللي وقع بالضبط مع سي عبدالقادر… هو استقبلنا بكل حفاوة وترحاب وعندما اعلمناه بما نحن عازمتان عليه لتكريمك تغيّرت ملامح وجهه وسالنا يخخي لازم ضيفكم يكون سي عبدالكريم ؟ انا مستعد نوفرلكم اي منشط او منشطة عوضا عنه وانا راهو نحكي في مصلحتكم ومصلحة برنامجكم… انتوما تعرفو سي عبدالكريم من عيوبو انو سليط اللسان واشكون يعرف يقولشي حاجة او بوحاجة.. ويخليكم في ورطة… انا نعاود نقوللكم راني حريص انو برنامجكم يتعدّى من غير مشاكل…. فردّت عليه احداهما: احنا راهو جايين خصوصي لبرنامج الهدف منو تكريم استاذنا الاعلامي الكبير سي عبدالكريم اللي علّمنا فيما علّمنا تحمّل مسؤولية افعالنا وقراراتنا…

انذاك وحسب ما اضافته الزميلتان احسّ السيّد عبدالقادر عقير بخطورة ما قاله وكاّنه يقول اش عملت اش عملت… وفي رواية اخرى جمرة وطاحت في الماء، ولسان حاله يتساءل زعمة جيت نطبّها عميتها؟؟… ورجانا (تواصل الزميلة الشابة) ان لا نذكر لك ما حدث… تذكرتوها هاكي الخاتمة متاعو في لقائنا الصباحي وفي نفس يوم قدوم زميلتيّ من اذاعة الشباب مع الزميل الصادق بوعبان (والقرآن الشريف صفحة جديدة بداية من اليوم مع سي عبدالكريم)؟؟؟… ربي يسامحك ويغفرلك خويا عبدالقادر …

ومع مطلع جانفي 2025 اي غدا* ستكون الحلقة الاخيرة في الورقة 113 من حكاياتي مع مديري سي عبدالقادر . رحمه الله وغفر له كلّ شيء… و كتهنئة بحلول سنة 2025 ادعو للجميع بهذه الدعوة (الامن والامان لتونس العزيزة لفلسطين المحتلة وهي في قلب محنتها مع اعدائها من الداخل والخارج … لكلّ الشعوب الشقيقة والصديقة ولكلّ انسان لم يمُت في داخله الانسان ..الله لا يحرمكم من السلام الروحي في هذه السنة الجديدة… صدقوني انها من اعظم نعم الله)…

ـ يتبع ـ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*المقال منشور لأول مرة في 31 ديسمبر 2024

أكمل القراءة

جلـ ... منار

فرنسا “الساحل العلوي”: نوستالجيا الانتداب وابتذال الاستشراق

نشرت

في

صبحي حديدي:

خلال مشاركته في مؤتمر المانحين حول سوريا، الذي احتضنته بروكسيل مؤخراً؛ ولكن، أيضاً، على صفحته الشخصية في منصة X ؛ كرّر وزير الخارجية الفرنسي جان ــ نويل بارو استخدام تعبير “الساحل العلوي” في إشارة إلى أعمال العنف والاشتباكات المسلحة والمجازر ضدّ أبناء الطائفة العلوية خصوصاً، التي شهدتها منطقة الساحل السوري مؤخراً.

صبحي حديدي

ومن حيث المبدأ، أو التذرّع بحسن النوايا، في وسع المرء الافتراض بأنّ مساعدي الوزير الفرنسي (كي لا يُشار إلى واجب اطلاعه شخصياً على معطيات الحدّ الأدنى الديمغرافية حول المنطقة) قد أعلموه مسبقاً أنّ سكان ذلك الشطر من سوريا ليسوا علويين فقط، بل ثمة أطياف دينية ومذهبية وإثنية شتى، من سنّة ومسيحيين وتركمان وأكراد…مصيبةٌ إذا كان بارو لا يعلم، أو لم يُعلمه مستشارون في وزارة ذات سجلّ حافل بفصولٍ عن سوريا البلد والشعب والجغرافيا، لا تعود بجذورها إلى إرث استعماري مُثقل بعقود من إراقة دماء السوريين وارتكاب الجيش الفرنسي مجازر وفظائع وانتهاكات فظة وجرائم حرب، فحسب؛ بل ينطوي تاريخها الحديث والمعاصر على ملفات شتى من التواطؤ مع نظام “الحركة التصحيحية” الأسد الأب ووريثه الابن معاً، والتغطية على منظومات الاستبداد والفساد، ومحاولات تجميل قبائح النظام وإعادة تأهيله.

المصيبة أعظم إذا كان يعلم، أو أعلموه، لكنه فضّل التغافل عن العلم والمعلومة واختار استسهال هذا الطراز الفاضح من مسخ الصفة الفعلية الوطنية والديمغرافية التعددية لمنطقة الساحل السوري، إلى هوية طائفية ضيّقة من جهة أولى؛ ولا يغيب عنها، من جهة ثانية، مزيج من نوستالجيا استعادة مصطلحات الانتداب الفرنسي وتفاهة التشخيص الاستشراقي في آن معاً.

هذا، كما يقتضي إنصاف سجلات الخارجية الفرنسية (أو الـ”كاي دورساي” كما في التوصيف الاستعماري الأشدّ رسوخاً) وزير غرّ نصف جاهل/ نصف هاوٍ، أتى إلى الوزارة من بوابة حماقة كبرى ارتكبها رئيسه إيمانويل ماكرون، حين حلّ الجمعية الوطنية ووضع فرنسا في مأزق حكومي لا يكفّ عن التفاقم. فإذا كانت تفوهاته حول “الساحل العلوي” زلّة لسان حمقاء في بروكسيل، فإنّ إصراره على استخدام التعبير ذاته على منصة X لن يفلح في منح عقله السياسي والدبلوماسي والمهني (سبق أن ترأس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الفرنسي، كما شغل سابقاً وزارتَيْ التحويل الرقمي والاتصالات، وأوروبا) أدنى درجة من فضيلة الشك.
لكنه، من جهة ثالثة لا تقلّ مغزى، ليس غرّاً إلى درجة التغافل عن أضرار استخدام تعبير، خاطئ وحمّال إشكاليات عديدة وتحريضي واستفزازي، مثل “الساحل العلوي”.

وبالتالي فإنّ من السذاجة الجنوح إلى تفسير الجهل أو انحطاط المعرفة أو زلّة اللسان، في قراءة إصرار بارو على استخدام التعبير تصريحاً في بروكسيل أمام محفل أوروبي ودولي، وتدويناً على منصّة يتابعها مئات الملايين في طول العالم وعرضه. وإذا عزّت مبررات الوزير في الحنين إلى أمثال جدّه الجنرال هنري غورو (المندوب السامي الفرنسي على سوريا ولبنان، الذي تقصد زيارة قبر صلاح الدين الأيوبي، وخاطبه هكذا: «استيقظ يا صلاح الدين. لقد عدنا. وجودي هنا يكرّس انتصار الصليب على الهلالـ«)؛ فلعلّه يحنّ إلى دور الانتداب الفرنسي في تأسيس ما أسمته باريس «دولة جبل العلويين» بين سنوات 1920 وحتى 1936، وشجعت تضافره على تقسيم سوريا مع دويلات دمشق وحلب وجبل العرب، وسلخ لواء الإسكندرون وضمّه إلى تركيا.

أم لعلّ بارو هذه الأيام تناهبه حنين إلى سَلَف له في أيام ماضية يدعى لوران فابيوس، سنة 2012؛ الذي اشتبك، في قاعة مجلس الأمن الدولي، مع بشار الجعفري مندوب النظام السوري آنذاك، حول علاقة بعض «وجهاء» العلويين بالانتداب الفرنسي. وهكذا أشار فابيوس إلى واقعة صحيحة تاريخياً: “بما أنك تحدثت عن فترة الاحتلال الفرنسي، فمن واجبي تذكيرك بأن جدّ رئيسكم الأسد طالب فرنسا بعدم الرحيل عن سوريا وعدم منحها الاستقلال، وذلك بموجب وثيقة رسمية وقّع عليها ومحفوظة في وزارة الخارجية الفرنسية، وإن أحببت أعطيك نسخة عنه”».

ولأنه ينتمي إلى الـ”موديم” الحزب اليميني الذي يتلفع بأردية ليبرالية كاذبة، فلعلّ بارو اتكأ على تراث شاع في قصر الإليزيه، خلال عهود جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، وتولى مراراً سلسلة عمليات تجميلية أعادت تأهيل صورة الأسد الابن؛ بل بادر شيراك إلى منح قَتَلة صديقه رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري المغفرةَ والترحيب معاً، مستأنفاً خطّ تعاطف مع نظام “الحركة التصحيحية” شمل الأب مثل الابن. ذاك عكس مزاجاً، سياسياً ولكن شخصياً أيضاً، جسدته حقائق أنّ شيراك كان الرئيس الغربي الوحيد الذي سار في جنازة الأسد الأب؛ كما كان المبادر إلى كسر عزلة الأخير الدولية، حين دعاه إلى زيارة باريس رسمياً في صيف 1998؛ وإلى إضفاء شرعية سياسية وأمنية على وجود قوّات النظام السوري في لبنان، خلال افتتاح القمّة الفرنكفونية في بيروت، سنة 2002.

من جانبه كان ساركوزي يواصل سياسةً في مراقصة طغاة الشرق الأوسط اعتمدها رؤساء فرنسا، سواء في العقود الأخيرة من عمر الجمهورية الخامسة في فرنسا، أم في عقودها الوسطى (أوّل زيارة للأسد الأب تمّت في عهد فاليري جيسكار ــ ديستان، 1976، بعد أشهر قليلة على دخول القوّات السورية إلى لبنان). فإذا كانت الأنشطة الدبلوماسية في العقود الأولى بمثابة تمرينات مبكّرة على ما ستطلق عليه التنظيرات الديغولية صفة «السياسة العربية لفرنسا» فإنّ خيار ساركوزي في الانفتاح على النظام السوري كان مدانياً لسلوك طبيعي، منتظَر وغير مستغرب البتة، من ذلك الرجل بالذات. الابتذال الاستشراقي تبدى أولاً في الزعم بأنّ العلاقة مع الأسد الابن هي امتداد «جغرافي» لوقوع سوريا على شواطئ المتوسط؛ الأمر الذي يلمّع انتداباً فرنسياً استعمارياً خضعت له سوريا، قبل أن يطوي صفحاته العنفية التي أراقت دماء السوريين في موقعة ميسلون صيف 1920، وقمع الثورة السورية الكبرى لعام 1925، ومذبحة حامية البرلمان السوري سنة 1945…

وظلّ حبراً على ورق ذلك النداء الذي وجهته إلى ساركوزي ثماني منظمات حقوق إنسان دولية (بينها “العفو الدولية” و”ميدل إيست واتش” و”الاتحاد الدولي لروابط حقوق الإنسان” و”الشبكة الأورو ـ متوسطية” و”المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب”…)؛ وناشدته إيلاء اهتمام لوضع حقوق الإنسان في سوريا. أحد أسلاف بارو في الخارجية (برنار كوشنر، صاحب نظرية التدخّل الإنساني في الشؤون السيادية للدول) اكتفى بدسّ قصاصة في جيب وزير خارجية النظام وليد المعلّم، تضمنت لائحة بأسماء معتقلين سياسيين سوريين، سوف ستبتهج فرنسا بإطلاق سراحهم!

ولا عجب أن يصمت بارو عن انتقادات طالت تعبيره المغلوط الفاضح، فالقادم من الرجل قد لا يكون مماثلاً فقط، بل أعظم!

ـ عن “القدس العربي” ـ

أكمل القراءة

صن نار