مرحبًا بك ياسمينة خَضْرا … بين أهلك وقُرّائك في تونس
نشرت
قبل سنتين
في
يحلّ بيننا هذه الأيام الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا في إطار جولة ثقافية وأدبية تقودُة من العاصمة إلى سوسة وبعد ذلك إلى جربة قبل الهُبوط بساحة كليّة الآداب بمنوبة غدا الثلاثاء.
اختار الرّوائي الجزائري محمّد مولسّهول ابن ولاية بشّار اعتماد اسم قلم جديدا “ياسمينة خضرا” (مستلّ من اسم زوجته الذي كان يوقّع به كتاباته في الفترة الأولى) للإفلات من قبضة الرقابة العسكرية لأن والده (الممرض والمقاوم القديم) وضعه بالقوة، وكان عمره آنذاك لا يتجاوز التسع سنوات، في المدرسة الحربية لطلاّبالثورة بتلمسان المختصة باستقبال أيتام الحرب الفرنسية الجزائرية. يقول ياسمينة خضرا بهذا الخصوص: “توقّفت عن أن أكون طفلا في اللحظة التي تخطّيت فيها أبواب هذه الثكنة… وفي أعين العسكريّين لم أكن محمد مولسّهول بل كنت مجرد رقم تسجيل 561”.
قاد بصفته ضابطا في الجيش الجزائري الذي عمل ضمنه لمدة 25 عاما، عديد العمليات العسكرية ضد الجماعات الاسلامية المسلّحة في الجزائر خلال العشرية السوداء (1990- 2000) وأفلت عديد المرات من كمائن نصبها له الإرهابيون.
في المدرسة الحربية لطلاب الثورة بتلمسان، كان الجندي الصغير يحلم بأن يصبح شاعرا في اللغة العربية وبها، ولم يكن أبدا ميّالا إلى الكتابة باللغة الفرنسية التي كانت أعداده فيها سيّئة. لكن يعتبر خضرا أن اللحظة المُوقدة لنباهته الروائية في اللغة الفرنسية حلّت عندما التقى بأستاذه الذي حفّزه ودفعه للكتابة بهذه اللغة.
تُرجمت كتبه إلى حوالي 40 لغة ونُقل العديد منها إلى السينما (مثل “سُنونوّات كابول” و “الصدمة” و “ما يدين به النهار للّيل”…)
لماذا قرّرت الاحتفاء على طريقتي بهذا الكاتب المتفرّد ؟
أعتقد أنه من حقّ الكتّاب المتميزين علينا أن نُسهم في التعريف بهم ونشر أثرهم خاصة في صفوف الأطفال واليافعين، لجعلهم يُدمنون تدريجيا منذ طراوة أنسجتهم الدماغيّة عبق النصوص المُذهلة وشذى المعاني الفاتنة، وذلك لكوني من المؤمنين بأن الكتب الأولى التي نقترحها على الطفل هي بمثابة الطُّعم الذي لا بدّ أن يكون آسرا وأخّاذا حتى يستمر في القراءة بحثا عمّا هو أكثر متعة وإقدارا على التحليق، ومن ناحية أخرى فإن جيلا تونسيا كاملا كبُر مع أدب ياسمينة خضرا المُستساغ لغةً والعميق في معانيه والمتأصّل في البيئة التي يُعمل معاويله فيها… وبالتالي فهو جدير بهذا الاحتفاء ترحيبا به في بلادنا وتثمينا لأدب نوعيّ مُقاوم كم عربُنا بحاجة إلى صعقاته اليوم.
أعتبر أن مسيرة هذا الرجل غير اعتياديّة بالمرة، إذ كيف لطفل غضّ في التاسعة من عمره أن يلتحق بمؤسسة عسكرية بقوانينها وجوْرها وعُتوّها ثمّ يصمد ويتأقلم ولا ينهار… وأن يستمرّ باصرار واستبسال نادريْن حتى التخرّج من شرشال في تيبازة برتبة ملازم… وخاصة أن يكتب ويتمرّن على الكتابة في أجواء كهذه (من بين كل كتبه، هناك مؤلّف “الكاتب” الذي يمكن اعتباره مؤثث بعديد العناصر من السيرة الذاتية التي تأتي على هذه الفترة من حياته)… لذلك أيضا وجب الاحتفاء.
بعضٌ من ياسمينة خضرا …
وفي سياق هذا الترحيب، ترجمتُ لكم بعضًا بسيطا ممّا كتبه هذا العسكري الذي وظّف بشكل ماهر جدا سجلّ الإمداد والإنزال والذخيرة والشيفرة السرية والاستطلاع والإبهار… في كتابة مؤلفات مدنية وإنسانية تنضح حرية وتحررا ومقاومة للانغلاق والتخلّف :
سأله أحد قرّائه ومتابعيه يوما على صفحته الخاصة :
المُتابع : السيد ياسمينة، أنا قارئ شغوف بكتبك، وكم وددت دائما أن أطرح عليك السؤال التالي: أنت تكتب ثلاث روايات في السنة، ما يدفعني للتساؤل كيف تتوصّل الى تخيّل كل هذه الروايات وكتابة كل هذه النصوص الجميلة، بينما يعجز كثير من الناس عن كتابة جملة واحدة ؟ هل هناك ملاكٌ يأتيك ليلا أو عند الفجر ليُنزل عليك هذه النصوص كما يحصل مع الأنبياء ؟ أم أن ذلك هِبة من الله … أو أنك تقول في نفسك ذلك نابع من كوني ذكيّ وهو ثمرة من ثمار نباهتي وليس هناك أي شخص وراء كل ذلك ؟ شكرا
ردّ ياسمينة خضرا : (لاحظوا تواضع الرجل وحدّة ردوده دون صلف وتكليف نفسه عناء الرد على أغلب من يعلّقون على صفحته الذين يُعدّون بالآلاف )
لِنقُل أنني أفضّل العيش مع شخصياتي بدلا من الأشخاص غير الجديرين دائما بالعطف وخاصة بالثقة الذي نُعبّر عنها تُجاههم. أنا أكتب لأن ذلك عشقي وولعي، وهو قُوّتي وألقي. أكتب لأن الخيال يثأر لي من بؤس الواقع وكآبته. أكتب لأنه يوجد عبر العالم أناس يتابعونني ويشُدّون أزري. من ناحية أخرى لا علاقة للحجم أو للوقت الذي نُقضّيه في الكتابة بعظمة أو جدية أثر أدبي مَا. قضّيتُ أربع سنوات في كتابة “نصيب المتوفّي” دون نجاح كبير. ولكن شهران فقط كانا كافيان لكتابة “الصّدمة” (الصّدمة هي ترجمة نهلة بيضون من لبنان لرواية l’attentat ) وهو الكتاب الذي مكّنني من الوصول الى ملايين القُرّاء اليوم.
ليس ثمة وصفة قاطعة ومقنعة. هناك 80 بالمائة من الموهبة و20 بالمائة من الحظ. أما بخصوص سؤال هل هناك ملاك يُمليني ما أكتب؟ يتعيّن عليك أن تسأله هو إن كان قد كتب روايات في السابق. ربّما الله، لأن كل ما نملكه هو مصدر له. أما عن إمكانية وجود شخص ما خلف هذه المعجزة، فلا أرى من هو جدير بذلك أكثر منّي أنا بالذّات. لأنني أنا من يتكبّد أرق الليالي ومَوْجات الصُّداع جرّاء التفكير وذُعر الأيام اللاحقة.
رسالة ياسمينة خضرا إلى أمّه في أفريل 2020 (النص الكامل على موقع فرانس أنتير، زاوية الثقافة)
عزيزتي أمّي الحبيبة،
أحاول منذ أيام، بحكم الحجر المفروض عليّ بسبب فيروس الكورونا، إنهاء الرواية الوحيدة التي كم تمنّيت أن تقرئيها، أنت التي لم يتيسّر لك أبدا لا القراءة و لا الكتابة، هي رواية تشبهُك ولا ترويك، لكنّها تحمل في طياتها القدر الذي كان قدرك. أدرك كم كنت تتشبّثين بمنطقة “الحْمادة” حيث كنتِ تتعقّبين اليرابيع وتتنمّرين على شجيرات السّدر من أجل بعض غلال العنّاب البائسة.
حاولتُ طيّ هذا الكتاب استدعاء الأماكن التي لها رمزية خاصة بالنسبة إليك، الكثبان الرملية هلالية الشكل وأثر أبطال حكاياتك. فأنت التي وهبتِني الشجاعة كي أواجه في النهاية هذه الملحمة التي تطاردني منذ سنوات.
قولي لي كيف هي أحوالك الآن هناك ؟ لا تودّين الرد عليّ ؟ بالتأكيد، لأنك تُفضّلين أن تبتسمي إزاء هذه الكتابة على حاسوبي التي لا تعرفين معاني لرموزها.
أعرف كم تحبّين الحكايات. كنتِ كل ليلة تسرُدين عليّ قصصا وحكايا، بينما كنت أنا أغالب نُعاسي رغبة في إطالة أمد التلذّذ بعذوبة صوتك. وكم كنت أتمنّى أن لا يتوقّف هديل صوتك أبدا عن مداعبة أنسجة روحي. كان يبدو لي أننا نشكل أنا وأنت العالم بأسره… أنت التي علّمتني كيف نصنع من الكلام سحرا ومن الكلمة ساحرا وكيف نُحوّل الجملة الى معزوفة وكيف يستحيل مجرد فصل من حكاية إلى ملحمة.
من أجلك أيضا أنا أكتب. من أجل أن يظل صوتك يسكن أحشائي. أنت التي تتصنّعين السّكينة عندما تصعدين فوق كثبان الرّمل وتمدّين يداك نحو الصحراء من أجل قطف كل أنواع السراب، أنت التي لا تُميّزين بين حصان يركض بعيدا في الخلاء وبين وحي ربّاني.
ستسعدين بوجودك في كتابي هذا وستُحوّلين علامات التعجّب فيه الى علامات خاصة بك.
عندما يحدث أن أعود إلى وهران، غالبا ما أجلس في مكاننا المعتاد واستدعي أحاديثنا وحواراتنا التي تسترسل حتى تنامي كطفلة. كان زمنا جميلا بالرغم من أنه لم يمرّ عليه سوى سنتين : سنتين لا تنتهيان كأنهما الأبد. كنّا نحتسي بعض الأشياء الطازجة في الشّرفة، أنت مستلقية على المقعد المُبطّن وأنا على إحدى درجات مدخل بيتنا ألتقم سيجارتي… وكنّا نتحاكى ونتبادل الطرائف والنوادر ضاحكين من براءتنا.
إلهي ! ما السبيل لاسترجاع لحظات النّعمة هذه؟ أيّ صلوات قادرة على إعادتها إليّ؟ بالرغم من اعتقادنا أحيانا أن الوقت مِلكٌ لنا، فيتضح أنه متعهّد بمهمة مُروّعة متمثلة في الفصل النهائي بين كائنين يتبادلان عشقا لا ينتهي. ولا تبقى إلا الذّكرى وفسح المجال لتداعبك الأوهام.
أمي الحبيبة، مذ رحلتِ، أراك في كل الجدّات، الشقراوات منهنّ والسمراوات والسوداوات، ثمة شيء ما منك في كل واحدة منهن. إذا لم تكن عيناك، يكون فمك، وإذا لم يكن صوتك تكون مشيتك، واذا لم يكن شيء من كل هذا، تكون جموع الانفعالات الشعورية التي تحدثينها فيّ دائما. أنت نيزك في سماء تكفهرُّ فجأة وأحيانا أخرى جزيرة وسط محيط من الحنان.
أنت أعجوبتي أنا.
إذا كان عليّ أن ألحق بك يوما يا أمي، أودّ أن يظلّ من بعدنا جزء منا نحن الاثنين لأن الحب وحده يقدر أن يحكينا إلى الذين يعرفون الإصغاء إليه.