مساحة للمرح الهادف وأنتم تستقبلون فترة دراسية جديدة
نشرت
قبل سنتين
في
من ليس باستطاعته أن يضحك ويمرح، لا يجب أن نأخذ ما يقوله على محمل الجدّ أبدا… هكذا يقول الكاتب النمساوي توماس برنار.
في محفل الخصال البشرية والعلائقية والاجتماعية المرغوبة، تُعدّ روح النكتة والدّعابة وإشاعة المرح من الشّمائل المستحبّة والمشتهاة لدى جميع من نتعامل معهم ضمن دوائر الأصدقاء والباعة والسّاسة والرؤساء. لكن استخدام روح الدّعابة بحنكة وبراعة ليس بالأمر المُتاح للجميع لأنه يقتضي من المتكلّم أن تكون لديه مهارات ذهنية متطورة جدا مثل الوعي بالذات وحذق تفاصيل اللغة وتعرّجاتها وإدراك طبيعة المشاعر الانسانية والتمرّس على رصد المعاني التي تؤثّث غير اللفظي والعفوية والتعاطف… والقدرة كذلك على إثارة المتعة والضحك لدى المتلقّي ودفعه دفعا إلى القول “كم هو ممتع الحديث إلى فلان، لكونه يملؤك ويشحنُك ولا يُفرغك، يُبهجك ولا يُحزنك، يُعلّمك ولا يُبلّدُك، يشدّك ولا يُنفّرك”. لذلك يُقال إن معاشرة إنسان بهيج وجذل وطروب أفيَدُ للفؤاد من شخص مغتمّ ومبتئس ومكروب… فيكفي التجهّم في السّماء على رأي إيليا أبو ماضي.
هذه بعض الحكايات والنوادر في علاقة بالتربية والمربين تعكس بالإضافة إلى طرافتها المؤكّدة قدرة خارقة على إيجاد الردود العفوية المناسبة في لحظات محدّدة :
الحكاية الأولى :
أستاذ جامعي حالِكٌ ومتجبّر وسيّء المعاملة مع طلبته كان بصدد تناول لمجة الغداء بمطعم الكلية، عندما جلس قبالته أحد طلبته المعروف بذكائه الوقّاد وتمرّده على كل الضوابط. بادره الأستاذ قائلا في نبرة تنمّ عن شيء من الاحتقار والاستهزاء “جميع الكتب التي قرأتها تؤكد دائما على أن الطيور والخنازير لا تأكل على نفس المائدة” !
لم يفكر الطالب طويلا قبل إجابته “آه، معذرة أستاذ، إذن دعني أحلّق”!
ظل الأستاذ صامتا كامدا غيظه أمام الصفعة المعنوية التي تلقّاها ردّا على محاولته استفزاز طالبه، وقال في نفسه لا بد من الانتقام منه هذا الوغد، فقرر إفراده بفرض مفاجئ خلال الأسبوع الموالي. وكان الأمر كذلك، لكن الطالب أجاب بشكل صحيح وبدقة متناهية عن كل الأسئلة المطروحة. أمسك الأستاذ ورقة الفرض وناداه إلى المنبر وطرح عليه إشكالا منطقيا مطالبا إياه بالإجابة عنه، قال له “كنتَ مارّا في الطريق وفجأة عثرت على كيسيْن، يحتوي الأول على أوراق نقدية والثاني على كمية لا بأس بها من الذكاء، أي الكيسيْن تختار ؟
– “أختار الكيس الذي يحتوي على الأوراق البنكية بطبيعة الحال” أجاب الطالب
– “لماذا ؟ لو كنتُ مكانك لاخترت الذكاء بدون تردد” أردف الأستاذ.
– هذا طبيعي جدا أستاذ، لأن الناس بصورة عامة تختار الأشياء التي لا تتوفّر لديها !
بلغ الغضب مداه الأقصى لدى أستاذنا فحطّ ورقة الامتحان على المكتب وخطّ في طُرّتها بالقلم الأحمر “غبي وأحمق”… تسلّم الطالب ورقته والتحق بمقعده قبل أن يعود إلى الأستاذ بعض لحظات :
“عُذرا سيدي، لقد أمضيتَ لكنّك سهوتَ ولم تسندْ إليّ عددا.”
ما يُغريني شخصيا في هذه الحكاية هو النجاح في أن توجِع شخصا جديرا بذلك باستخدام “سلاح لغة الذّهن فقط” أو ما يسمّيه الفرنجة بــ les mots d’espritأي باستعمالوسائل الثقافة بدلا من اللّجوء إلى وسائل الطبيعة المتألّفة من العضلات والهراوات. ومن ناحية أخرى، هذا النموذج من الأساتذة العُتاة موجود بوفرة في مدرّجاتنا الجامعية، فمنهم الدّون جوان والعدواني والشّامت والمقاول والمسافر أبدا والمتغيّب دائما … فوجب أحيانا إرجاعهم إلى حقيقة أحجامهم وتذكيرهم بأنه لن يبقى من مسيرتهم بعد “تعليق الحذاء” سوى خاصيّاتهم السيّئة التي عُرفوا بها.
الحكاية الثانية :
كانت جدّةٌ تتجول مزهوّة في شوارع المدينة رفقة حفيديْها، لمّا اعترضها شخص يعرفها، فبادرها بالسؤال : كم يكون عمر هذين الأميرين الصغيرين سيّدة جوزيفين ؟ أجابته على التوّ ودون طويل تفكير “الطبيب عمره 5 سنوات، أما المحامي فعمره 7” !
ينطبق على هذه الحكاية مبدأ “النهاية أو المنتهى أو الغاية النهائية” telos في فلسفة أرسطو، والذي يعني “العملية المركزية التي تمارسها الغايات على الوسائل” لأن الإنسانية لها اتجاه، وهي تتطور باتجاه كمالها النهائي. أي أن الطفل ليس ما هو عليه الآن بل هو ما سيُصبحه في المستقبل. أو ليس هذا قفزا محمودا في المستقبل يؤثر إيجابيا في مُجريات حاضرنا جميعا ؟ !
الحكاية الثالثة :
في قديم الزمان، كان هناك أستاذ صيني يتنقّل بين مدينة وأخرى ليلقي في كل مرة محاضرة أمام جمهرة من المتعلمين والمهتمّين حول موضوع تقني معقّد. وكان يمتطي عربة تقليدية يقودها سائق من نفس سنّه تقريبا وكان هذا الأخير على درجة عالية من الفطنة والانتباه والقدرة على الحفظ.
وبعد عدة تنقّلات، انتهز السائق فرصة الاقتراب من المدينة التي ستحتضن المحاضرة الجديدة، فقال للأستاذ : “لقد حفظت تفاصيل محاضراتك بالكامل وأراهنك أنني أستطيع تقديمها عوضا عنك وكأنني أنتَ”.
– أجابه صديقه الأستاذ: “نعم قد يكون، ولكن كما تعلم يا صديقي المحاضرة يعقبها دائما سيل من الأسئلة التي يُلقيها الحضور، وعندها… لا أعتقد….”
– قاطعه السائق متحمّسا: “لا أعتقد أن ذلك يمثل مشكلا يا أستاذ لأنهم يطرحون دائما نفس الأسئلة وقد حفظت جميع الإجابات عن ظهر قلب.”
أُعجب الأستاذ بالفكرة وأغراه التحدّي فاقترح أن يتبادلا اللباس والأدوار وهما على مشارف المدينة.
أبدع السائق يومها وقدّم محاضرة رائعة متمكّنا من الردّ على كل الأسئلة التي ألقيت عليه لكونها أسئلة مكرورة يُعاد طرحها في كل مرة.
ولكن في نهاية الأمسية بادر أحد الحاضرين بطرح سؤال غير متوقّع وغير مسبوق. كان الأستاذ في آخر القاعة متنكّرا في لباس السائق يُتابع بانتباه ودهشة ما يحدث أمامه. وفجأة توجّه السائق إلى الأستاذ الجالس وراء الحضور مُشيرا إليه بإصبعه :
– “أصدقائي، لقد مثّلتم بالنسبة إليّ جمهورا بديعا، أنصتّم إليّ بتركيز كبير وطرحتم أسئلة صعبة جدا…ولكن وصلنا إلى وقت متأخر، لذلك نشعر كلّنا بتعب شديد… وهو ما يفسّر أننا كنّا بصدد الاستماع إلى سؤال غاية في السهولة بشكل حتى السائق الذي يرافقني والذي يجلس هناك قادر تماما على فكّ رموزه… وستكتشفون ذلك بأنفسكم. فتفضل صديقي لو سمحت ! “
نستطيع أن نقول إزاء هذه الحكاية أن :
قوّة العقل (مرة أخرى) لا تُضاهَى وأصعب المآزق باستطاعتنا التغلّب عليها إذا نحن تحلّينا بما يكفي من الدهاء والذكاء.
العِصامي – كما تعرّفه الكاتبة ماري إيموني- ليس من يتعلّم كل شيء لوحده (وهو تعريف عار من أي معنى له دلالة حقيقية) بل هو من تكون معارفه غير مؤشّر عليها في أي شهادة ولا يدافع عنها أيّ كان.