مشموم، جمل ، طبل و زكرة … هذه هي الصورة النمطية التي ما فتئت تونس تروّجها عن نفسها منذ سبعينات القرن الماضي و منذ بدايات الاستثمار في السياحة . و لئن كانت هذه الصورة مقبولة في ذلك الوقت إلا أنها اليوم صارت مثيرة للكآبة و السخرية فكأنّ آلة الزمن قد توقفت بنا في ذلك العهد و كأن بلادنا خلت من الكفاءات القادرة على التجديد و الابتكار و كأن شبابنا أصيبوا بالعقم الفكري و نضب خيالهم و عجزوا عن إيجاد أفكار و تصورات و طرق أخرى للترويج لصورة تونس و للسياحة في تونس .
تونس الضاربة في عمق التاريخ الثرية بمناطقها الجميلة المتعددة التي تجمع ثراء حضاريّا وطبيعيا و مناخيا مميزا تحدّث عنها محمّد المنسي قنديل في مجلة العربي قائلا : ” إنّ تونس تبدو وسط الخارطة مثل تويج زهرة تغسل هامتها في زرقة المتوسّط و تمتدّ جذورها إلى صفرة الصّحراء … هذه البقعة الصغيرة من الأرض جمعت أحداث التاريخ بعد أن ركّزتها و صفّتها من الشوائب”
مشموم، جمل ، طبل و زكرة و فرقة موسيقيّة لُــفّقت ملابس أعضائها تلفيقا لا أصل له و لا فصل فلا تعرف إن كانوا قرطاجنّيين أو رومانيين أو حتى من سلالة الهنود الحمر …. هذا المشهد الفولكلوري هو الذي استقبلت به تونس أول رحلة من سياحة الرّحلات البحريّة croisière تعود لترسوَ في موانئنا بعد غياب تواصل ثلاث سنوات … فحتّى الأطفال الصغار لم تعد تشدّهم و لا تستهويهم هذه المشاهد .. ففي عصر التكنولوجيا كان بالإمكان استقبالهم بعرض ثلاثي الأبعاد من 10 دقائق مثلا على شاشة عملاقة يختزل تاريخ تونس في رحلة عبر الزمان و المكان، عرض يشرف على إعداده مختصون في الحضارة و التاريخ و الآثار و فنانون و مهندسون في الإعلامية و جماليّة الصورة … أو كان يمكن أيضا تحويل ميناء حلق الواد إلى متحف مفتوح في الهواء الطّلق توضع فيه مجسّمات لبعض المناطق التونسيّة المميّزة و يتقمّص فيه مجموعة من الشخوص أدوار الآلهة و بعض الشخصيّات التاريخية الملهمة.
إنّ السياحة في تونس قطاع واعد إذا ما غيّرنا نظرتنا إليه و طريقة تعاملنا معه و بحثنا عن التجديد و تخلّصنا من طريقة تفكير السبعينات و إذا ما صار للسياحة و الثقافة مكانة في الخطط الإستراتيجية للدولة
فتقوم مثلا بمنع اعتماد نظام الإقامة الشّاملة ( All Inclusive ) حتى لا يكتفي السياح بالبقاء داخل النزل و استهلاك ما يعرض عليهم ، فيغادروها و يتجولوا في المدن و في أحضان الطبيعة و في أرجاء الآثار و يطلعوا على الحضارة و يتعرّفوا على العادات و التقاليد و ينشطوا مجال الصناعات التقليديّة و المطاعم و المقاهي و يزوروا المتاحف و المسارح و قاعات العروض ..
و تشجّع المستثمرين على بناء دور الضيافة و فنادق المؤتمرات و النّزل الصغيرة المخصصة لأيام قصيرة داخل المدن و الوحدات السياحية بالمناطق الجبلية والغابية والصحراوية و المدن الداخلية مثل الكاف و باجة و سليانة و القيروان و القصرين و قفصة و سيدي بوزيد …
و تحرص على التنويع في المهرجانات و المؤتمرات والتظاهرات الدولية ثقافيّا و فنّيا و اقتصاديّا و تجاريّا و علميّا … و السياحة البيئية و الاستشفائية و الرّيفية و سياحة الاستغوار والتفكير حتى في سياحة الألعاب و المسابقات ( ملكات الجمال / السيارات / السيارات القديمة / التزلج على الكثبان الرمليّة …) و على استغلال أماكن تصوير الأفلام العالمية في الجنوب التونسي أو مساكن الفنانين و المشاهير العالميين في الحمامات و غيرها لتنظيم رحلات نحوها
و تعيد فتح المتاحف و المواقع المغلقة منذ سنوات و تعمل على توزيع محامل رقميّة أو مطويّات ورقيّة على كل السياح بمجرّد أن تطأ أقدامهم التراب التونسي ليعرفوا أية وجهة يقصدون و لتسهيل تجوّلهم في أرجاء البلاد ..
هذا طبعا دون نسيان السياحة الداخلية حتّى يتعرّف التونسي على بلاده و يشعر بقيمة الانتماء إليها و يروّج لها في حديثه أو تعامله أو حتى من خلال صوره التي ينشرها على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، و ترسيخ شعور الفخر لدى النّاشئة بأننا أحفاد حنّبعل و أبناء قرطاج العظيمة صاحبة الانتصارات الكبرى التي كانت تسيطر على البحر الأبيض المتوسط .
و لم لا صياغة تشريعات جديدة تسمح للمستثمرين ( وفق شروط مضبوطة ) باستغلال بعض الحصون أو الأبراج أو الرّباطات أو المناطق الأثريّة ببثّ الحياة في أرجائها و خلق عالم متحرّك داخلها يذكّر بخصائص الحقبة الحضارية التي تنتمي إليها، فلا يشاهد السائح مجرّد حجارة دارسة بل يعبر الزمن و يعيش حكاية أهل الحضارة التي عاشت هناك فتتجسّد تفاصيل الحياة اليوميّة في البيوت و الأسواق و الحفلات و الجنائز و تُصوَّر الآلهة و الطقوس التعبّديّة أو تقام المعارك و الاستعدادات و التحصينات ، حسب خصوصيّات كل معلم و مميّزاته ..
مشموم، جمل ، طبل و زكرة مشهد شعر أمامه عدد كبير من التونسيين بالإحباط يوم الأربعاء الماضي و اعتبروا أنّ ذلك اليوم ـ رغم الاستقبال الرسمي من أعلى كوادر الدّولة بقيادة وزير السياحة نفسه ـ كان فرصة مهدورة لحسن الترويج لتونس، فضاعت على البلاد فرصة إبهار 724 سائح من جنسيات مختلفة بريطانيّة و ألمانية و اسبانيّة و هولنديّة و أستراليّة وكنديّة و دانماركيّة كان يمكن أن يكونوا خير سفراء داخل بلدانهم للترويج لصورة تونس و لقدرات أبنائها، لا سيّما حين يقارن التوانسة بين ما تقوم به كلّ من مصر و المغرب و تركيا من طرق و أساليب مبتكرة للتعريف بتاريخها و حضارتها و مميزاتها و نعجز نحن عن الخلق و الابتكار ..
فتونس أكبر من أن تختزل في مشموم و جمل و طبل و زكرة .