قد لا تبدو العلاقة بين الماء والطاقة واضحة في أذهان القسم الأكبر من البشر لأن فهمها بحاجة الى بعض العمق العلمي. سأحاول في مقدمة هذه المقالة أن أعالج الموضوع بالحد الأدنى من الخوض في المفاهيم العلمية المتخصصة.
يمتاز الماء خلافا لكل السوائل بأنه جزيْء قطبي الشحنات الكهربائية السالبة والموجبة مما ينتج عنه انجذاب جزيئات الماء بعضها الى بعض عبر الشحنات الكهربائية المتضادة. ذاك الانجذاب الإليكتروستاتيكي هو المدخل لفهم واحدة من أهم الصفات الكيميائية المسؤولة عن نشوء وديمومة الحياة على كوكب الأرض بل هي أيضا المدخل المنطقي للتحقق من وجود حياة على كواكب أخرى ضمن وخارج مجرة درب التبانة التي تنتمي اليها مجموعتنا الشمسية. وجود الماء السائل على سطح كوكب مّا، يضمن توزيعا متوازنا للدفء والبرودة على سطح ذلك الكوكب مما يمهد لنشأة أتواع من الحياة تماما كنشأة الحياة على كوكبنا.
والآن يطرح السؤال المنطقي: كيف يمكن للماء أن يوزع الدفء والبرودة على سطح كوكبنا؟ التجاذب الإليكتروستاتيكي بين جزيئات الماء يتم عبر ما يعرف بالروابط الهيدروجينية التي تختزن طاقة كيميائية محددة ومعروفة لا بد من فك عراها (بالتسخين مثلا) إن أردنا للماء أن يتبخر. وعلى نقيض ذلك، يفقد بخار الماء تلك الطاقة عند تحوله الى الطور السائل أو الصلب. لتوضيح تلك الألية فإن أجسامنا تبرد عند التعرق لأن الماء الذي يتبخر عن سطوح جلودنا يمتص الطاقة اللازمة لتحرير جزيئاته ليصبح غازا كما أن هطول المطر أو الثلج يكون مصحوبا بدفء الجو الناجم عن خسارة تلك الطاقة الناتجة عن تحول الماء من الحالة الغازية الى الحالة السائلة (هطول المطر) أو من الحالة السائلة الى الحالة الجليدية الصلبة وهطول الثلج. أظن أن من يعيشون في بلاد تهطل فيها الثلوج شتاء يلاحظون البرودة القارصة المصاحبة لذوبان الثلوج لأن الذوبان يعني استهلاك طاقة لفك عرى الروابط الهيدروجينية. تقدر الطاقة اللازمة لتحويل جرام واحد من الثلج الى سائل عند نفس الدرجة أي صفر مائوي 334 جول أو 79.5 كالوري لأن الكالوري يعادل 4.186 جول.
تحدد الصفة السابقة للماء طبيعة المناخ السائد في بقاع الأرض فالمناطق الساحلية أو تلك التي تتوفر فيها رطوبة تربة يتذبذب مناخها ليلا-نهارا أو صيفا-شتاء بتفاوت يقل كثيرا عن تذبذب درجات الحرارة في المناطق الداخلية كالصحراء في فصل الشتاء مثلا إذ ترتفع درجة الحرارة نهارا الى مستوى يستدعي تخفيف الملابس لكنها تنخفض كثيرا في أواخر الليل الى الحد الذي يستدعي التدثر بملابس ثقيلة. لتفسير ما سبق فإن للماء سعة حرارية مرتفعة تقدر بكالوري واحد لرفع درجة حرارة جرام من الماء السائل بمقدار درجة مئوية واحدة. وعلى النقيض، للعديد من الأجسام الصلبة مثل التربة الجافة سعة حرارية متدنية تصل الى نحو 0.2 كالوري لكل جرام واحد لرفع درجة حرارة جراما واحدا بمقدار درجة مائوية واحدة.
هذه المتلازمة بين الماء والطاقة لعبت دورا أبعد من نشوء الحياة المشار اليه سابقا إذ أن التوازن بين العاملين مهد الطريق لنشوء الحضارات الإنسانية خاصة في حوض البحر الأبيض المتوسط. في تلك البقعة الجغرافية تتوفر طاقة معتدلة ومياه بحر مغلق تقريبا تبعد المنطقة عن تأثيرات التيارات البحرية، الناجمة عن تفاوت حرارة مياه المحيطات، والتي تجوب العالم مصطحبة معها الدفء والأمطار العاصفة (مثل منطقة الكاريبي وخليج المكسيك وسواحل شرق آسيا خاصة خليج البنغال) أو البرودة المفرطة والثلوج الكثيفة كما هو حال سواحل أوروبا الغربية شتاء.
في الماضي القريب كانت هناك وفرة نسبية من المياه في مهاد الحضارات الكبرى كوادي النيل ومنطقة الهلال الخصيب وهضبة الأناضول رغم تعاقب غير منتظم لسنين جفاف طارئة لا تلبت أن تتراجع. لكن وبزيادة عدد السكان الناجم عن عوامل التطور المعيشي والصحي المستوردة أدواتهما من الخارج بدون مصاحبة تحول اجتماعي وانتاجي يضبط الزيادة السكانية بدأت وفرة المياه النسبية في التراجع في دول العالم الثالث الى أن أصبحت في حالة شح. هنا لا بد من التنويه الى أن عتبة الكفاية المائية المستخدمة من قبل العاملين في مجال المياه ومقدارها 1000 م3 للفرد سنويا ما هي الا قيمة محسوبة وفق مستوى المعيشة ومتطلبات المجتمع الحضري ومعطيات الإنتاج الصناعي والزراعي القائمين على ابداعات علمية وتكنولوجيا تتطور باستمرار باتجاه زيادة كفاءة استعمال المياه والتي بدورها تتفاوت من بلد لآخر مما يدحض فكرة المكيال الواحد عالميا ويوجب في ذات الوقت ضرورة مراجعة ذلك المكيال أو المكاييل بشكل دوري وفق المعطيات المستجدة……