لمْ أنْعَمْ مثل أندادي من الأطفال التونسيين خلال السنوات الستّين من القرن الماضي بمباهج الشاشة الصغيرة ومفاتنها نظرا بصفة خاصّة لغياب التدفّق الكهربائيّ المبارك في أريافنا الحزينة فعشنا طيلة عقود على أثير الإذاعة الوطنية وإذاعة الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية (بحكم علاقة الجوار) وبدرجة أقل القناة الدولية لإذاعة تونس الناطقة بالفرنسية.
كان الرّاديون (المذياع أو جهاز الراديو مصطلحات لا تؤدي المعنى تماما في هذا السّياق) خلال سنوات السدّ العالي ودول عدم الانحياز والغاني نكروما هو نافذتنا الوحيدة على العالم المكتظّ آنذاك بأحداث عالمية كبرى سياسيا واجتماعيا وثقافيا وموسيقيا…لكنّ جيلي – في جزء كبير منه – لم يكن مسلحا بما يساعده على فهم ما يحدث من حوله وتمتين صلته بالمعارف الكونية لأن غول الأمية كان جاثما بكلكله على صدور الأغلبية الساحقة من العائلات التونسية ولأن المحامل الثقافية الأخرى مثل الكتب والأفلام والمجلات والجرائد والقصص المصورة لم تكن موزعة بعدل بين جميع التونسيين.
هذه العلاقة الحميمية اليومية مع الإذاعة كناطق رسمي ووحيد باسم العالم في بيوتنا أكْسَبتنا “وعيا راديونيّا نموذجيا” له ما يميزه ويصنع فرادته مقارنة بمن ينهل من عيون اتصالية وموائد مائية أخرى.
كنتُ خلال العطل المدرسية وأيّام الأحد أقبل بحماسة شديدة ممارسة مهنة الراعي الموسمي لأبقار العائلة وأغنامها بدافعين أساسيين. أولهما ارتباط تلقائي بطبيعة غنّاء ومِعطاء فيها من عذب المياه وطيب النباتات الصالحة للأكل ما يجعلك لا تخشاها أو تتهيب مما قد يصيبُك بين أحضانها. أما الدافع الثاني فكان استجابة والديّ للمساومة التي أمارسها في كل مرة وهي الرّعي مقابل الإذاعة، أي اشتراط أن يكون مذياع العائلة بحوزتي خلال كامل الحصة الرعوية الصباحية.
وكان الحرص على اصطحاب جهاز الراديو مدفوعا بالرغبة في إطفاء شغف أو عطش ما لمعلومة جديدة أو تعلم جديد أو طريقة جديدة في نُطق بعض الكلمات التي مارست علينا عربدتها طويلا مثل ماساشوستس الامريكية أو هارليمميرمير الهولندية… كانت رؤوسنا ضمأى لو وضعت فيها العالم لاستوعبتهُ.
ما تحتفظ به ذاكرتي الآن بصفة خاصّة وبعد مرور أكثر من نصف قرن على تلك العهود التي كانت فيها الكلمات والألحان تشق طريقها بمُفردها وببسالة الى قلوب المستمعين ووجدانهم في غياب صورة تؤثر وأضواء تُبهر :
_____لم تكن هنالك حاجة إلى ومضات إشهارية للتحريض على الاستهلاك وتخيّر ماركات بعينها دون أخرى لأن الجمهور الواسع للمذياع تنحصر مقتنياته الاستهلاكية في ثلاث أو أربع حاجيات أساسية مثل الشاي والسكر والقهوة ومعجون الطماطم. فالمشروبات الغازية كلها “فانتا” والأحذية الرياضية كلها “ماركة غزالة” أو “مجهول” (ويبدو أن عائلة ماجول كانت تملك معملا لصنع الأحذية في تونس آنذاك) والعطورات كلها “ريفدور” وأنواع البسكويت كلها “قوفرات سيدة” قبل مجيء الشوكوتوم.
____لم نكن قادرين على ردّ الأسماء إلى مسمّياتها الأصلية كأن نردد حلوى شاميّة دون التفطن الى أنها منسوبة الى بلاد الشام الماسحة تاريخيا لسوريا ولبنان والأردن وفلسطين التاريخية… ولم نكن ندرك أن قافلة تسير تعني مجموعة من الناس تسير معا بواسطة الإبل بغرض التجارة … وبرنامج “إختبر ذكاءك” لم نكن نفهمه على أنه حصة لامتحان الذكاء وأن تفسير الجلالين يقصد به تأليف جلال الدين المحلّي وجلال الدين السيّوطي.
____كانت نشرات الأخبار الإذاعية تتميز بأن من يُقدّمها لا يُتقن بصفة عامة لا التنقيط ولا أدوات الربط، وقد عُدْتُ الى أرشيف الإذاعة الوطنية التونسية لأعثر على نشرة بُثّت عام 1981 على النّحو التالي :
“حلّ بتونس بعد ظهر اليوم وزير الداخلية النمساوي في زيارة رسمية تستغرق بضعة أيام وأشاد نائب رئيس الجمهورية العراقية لدى مغادرته تونس بالعلاقة التونسية العراقية التي وصفها بأنها حسنة ومتطورة واجتمع الرئيس علي ناصر محمد بوفد فلسطيني وبحث معه آخر تطورات الوضع في الساحتين اللبنانية والفلسطينية وشجب الرئيس الإيراني محمد علي رجائي في أول خطاب له شجب الدور الذي تقوم به منظمة المجاهدين اليساريين وطلب الوزير الاول البرتغالي منحَهُ مُهلة بثلاثة أيام قبل اعلانه عن قراره بامكانية استئناف مهامه كوزير أول.” هكذا بدون نقاط أو فواصل وكأنها “لقمة” واحدة.
____البرامج الإذاعية الدعائية للسلطة القائمة آنذاك كانت إما دعائية فجّة مثل “التنمية الريفية” أو مبتذلة تخاطب عفوية التونسي في علاقة بالتراث مثل قافلة تسير (في سياق عقلية تركريك التاي التي لاحقتنا إلى قصر الضيافة بقمرت حديثا).
إفْرَح النّجع زْهات أيّامه وبطل التُّخمام
والشاي مْركّب قدامه في السهرة خدام (بصوت مختار حشيشة ).
____كان لنا آنذاك تعاطفا تلقائيّا مع إذاعة “صوت فلسطين” فتعلمنا أسماء قرى فلسطينية بعيدة من قبيل جنين وبئر السبع والناصرة وأسماء قيادات تاريخية طبعت مسار المقاومة الفلسطينية مثل أبو عمار وأبو إياد ووديع حداد وليلى خالد وجورج حبش ونايف حواتمة… أو مع صوت مغرب الشعوب (للتحرر والتقدم والوحدة) التي كانت تبثّ من مدينة وهران زمن الرئيس محمد بوخروبة (هواري بومدين) في نهاية السبعينات مع بعض الفقرات بالدارجة المغربية لدغدغة مشاعر مواطني المغرب الأقصى في علاقة بقضية الصحراء ضد “صوت البلاد” المغربي فعرفنا مدنا وقرى صحراوية مثل وادي الذهب والعيون والسمارة وبوجدور…
____بادرت الإذاعة الجزائرية مباشرة بعد الاستقلال وفي إطار إعادة الاعتبار للّغة العربية ومسح آثار هيمنة اللغة الفرنسيّة طيلة عقود إلى بثّ حصص للترجمة مرة في المجال الصحي وأخرى في ميدان الزراعة …فكان المذيع يبذل قُصارى جهده كي ينطق ببطء شديد وبلكنة عربية واضحة :
البنكرياس هو le pancréas والطاعون la peste والتطعيم la vaccination والدواء الجنيس les médicaments génériques الخ… وكم كنا نتعلم لغويا من هذه الفواصل التربوية على الأثير.
فتعلمنا أيضا أن الثنائية اللغوية هي استعمال لغتين مختلفتين في مجتمع واحد كالعربية والفرنسية في الجزائر وتونس بينما تتمثّل الازدواجية اللغوية في استعمال افراد المجتمع الواحد لمستويين ينتسبان الى لغة واحدة مثل العامية والفصحى في اللغة العربية.
____وأخيرا لا يمكن أن أنهي هذه الورقة الراديونيّة البسيطة بدون استدعاء ما أتاحته إذاعة الجارة الجزائر من انفتاح على فنانين وأعلام وأدباء لم يكن متاحا معرفتهم بالاعتماد فقط على إذاعتنا الوطنية، فعرفنا على سبيل المثال الفنان خليفي أحمد ملك الأغنية الصحراوية الذي غنّى لفحول الشعراء أمثال الشيخ سي بن يوسف، و الشيخ بن قيطون، والشيخ سماتي و الشيخ عيسى بت علال.
ومازلت أحفظ لهذا الفنان المتميز أغنية “تفكّر عربان رحّالة” التي تقول كلماتها :
قلبي تفكر عُربان رحّالة … تاريخ افريقيا الشمـــــالِ
كيفاه كانوا قومان خيــّــــــــــــــالة…..حسراه قداه ازهيت بابطالي
شوفو احوال الدنيا الختّالــــة….قداه مضات أيام وليــالي
كما عرفنا فنّانين بارزين مثل رابح درياسة و هاشمي القروابي ونورة و الشيخ بورقعة و بقار حدة ودحمان الحراشي ولونيس آيت نقلات وأدباء مشهورين ككاتب ياسين وعبد الحميد بن هدوقة ورشيد ميموني والطاهر وطار ورشيد ميموني الخ…