دفءُ نار

منصف الخميري: عَشرُ مُفارقات تونسيّة

نشرت

في

في نهاية الحرب العالمية الثانية، قدّرت ألمانيا خسائرها البشرية بنحو ما بين 7 و 9 ملايين قتيل بين مدنيّين وعسكريّين ودُمّر فيها أكثر من نصف أرضيّة النّقل وظل 20 مليون ألماني بدون مأوى ونزلت على مدينة هامبورغ لوحدها 650 ألف قنبلة حارقة مُخلّفة نصف مليون قتيل...

<strong>منصف الخميري<strong>

قبل أن تصبح ألمانيا خلال بعض العشريات فقط رائدة في طاقة الهيدروجين والطاقات المتجددة وصناعة السيارات والقدرة على التجديد وصناعة الدواء وتنقية الهواء وتأهيل التعليم ونسب البطالة الأدنى ومؤشرات احترام القانون العالية جدا أوروبيا وعالميا… وهذه مُفارقة مُستحسَنة.

أما حالة تونس فتمثل مفارقة مُستهجَنة…لأنها من صنف المجتمعات التي لها كل المُقوّمات حتى تكون في أعلى سلّم الأمم والشعوب المتقدمة لكنها تفعل كل شيء من أجل تدمير هذه المقومات وتبديد ما وهبتها الطبيعة من مُقدّرات وتبجيل التخلف بدلا من التقدم وتخريب ما لديها من مكتسبات وإنجازات قابلة للتطوير والتثمين.

ومن المفارقات الصّارخة في تونس :

____أنّ شعبا يبْدو سويّا يُدمّر عن وعي وبسابق إصرار وإضمار دولة قائمة بالرغم من الإخلالات التي ترزح تحت نيرها ولكنها قائمة وتنتظر نصيبها من استبدال الدولاب وإصلاح الأعطاب، ليحل محلها الخراب واللاّدولة وسيادة اللامعنى وارتفاع أصوات الحُثالة حدّ الثُمالة بل وإفراز نخبة مثقفة ومناضلة تُنظّر بأنه ليس للفقراء والمُهمّشين ما يخسرونه جرّاء “تبريك” الدولة نهائيا ثم التباكي على أنقاضها أو التغنّي بلذّة انتظار قيام دولة الكاحين التي لن تأتي.

____أن ثورة تَبيضُ دستورا يَعُجّ بأسمى المبادئ والقيم الانسانيّة ولكن يستمر المجتمع في التصرف بطمأنينة عكس هذه المبادئ تماما … كأن يكون شعار الجمهورية الحرية والكرامة والعدالة والنظام بينما تتصدر أخبار الثامنة نبأ اعتقال شابة عبرت عما يعتبره البوليس اعتداء على الأخلاق الحميدة، ونبأ قبول الدولة لهديّة مسمومة من الإمارات ليقول الإماراتيّون “فرحة شعبية عارمة في تونس بوصول اللقاحات الاماراتية” في اعتداء فاحش على كرامة التونسيين وسيادة دولتهم.

أو أن نُقرّ بأن جميع المواطنين متساوُون في الحقوق والواجبات ويُمنع الترشح لرئاسة الجمهورية لغير المسلم  (وكأن الانتماء الديني من الممكن أن تبرهن عليه بطريقة شكلية رسمية).

ونفس الشيء بالنسبة إلى الحق في الماء والغذاء والدواء وحرية الضمير والضريبة العادلة وحرمة الأجساد وكرامة العِباد. 

____أنّ بلادا في أمسّ الحاجة إلى العقل والكفاءة والاقتدار والرّوح الوطنيّة لأنها تعيش أكثر الأزمات حدّة في تاريخها، تُرتّب أوضاعها بشكل يُقصي أكثر الأسماء كفاءة في الاقتصاد والإدارة والاستشراف والأمن والتصرف في الأزمات والتجارة والتسيير … ويُزيح كل من لا يقبل الصّندقة وفق معايير اللحظة الموغلة في النفعية والتحيّنيّة والروح الغنائمية. فنجد أنفسنا أمام مشاريع على الرّفوف وكفاءات على الرفوف ودراسات كَلّفت الدّولة مليارات على الرّفوف… أمّا الجماعة فرياضتهم الوطنيّة المُفضّلة هي ضرب الدّفوف وإمالة الخطّ المعكوف.

____أن بلادا تقول عنها بوّابات البحث الالكتروني أنها كانت “مطمورة روما” عندما كانت تكفي محاصيلها من الحبوب لإعاشة كافة مقاطعات الإمبراطورية الرومانية (بين سدس ونصف سكان العالم تقريبا) …حتى أصبحت تونس اليوم تستورد حوالي 120 الف طن من القمح الليّن 110 الاف طنّ من القمح الصلب و 75 الف طنّ من علف الشعير (ارقام 2014) من الولايات المتحدة و أستراليا وفرنسا وكندا والمانيا وبولندا والارجنتين وأوكرانيا ورومانيا.

____أن بلادا يعتبرها العالم رائدة في تطوير الصناعة النسيجيّة لتكون دعامة من دعائم بناء الدولة الوطنية الحديثة في مسيرة هلالية متفرّدة (نسبة الى قصر هلال). فبُعث المُركّب التونسي للنسيج 5 أشهر فقط بعد إعلان الاستقلال مع بعث مسالك للتكوين الخصوصي في المجال كهندسة النسيج وصناعات الملابس وصناعات التجويد واكسسوارات الموضة…بلد بهذا الملمح لا يخجل مسؤولوه من استيراد الكمّامات القماشية من تركيا بملايين الدولارات ولا “يجعر” مُختطفوه من استيراد جِمال الصناعات التقليدية الوبريّة من الصين الشعبية بالعُملة المُستعصية.

____أن تونس السبّاقة إلى تأسيس كليات الطب وبعث التعليم المدني والتشجيع على المسالك العلمية والتكنولوجية وانتشار أقسام الفلسفة وحلقاتها ونواديها باتت لا تُعرف أحيانا أمام طوابير لا تنتهي تنتظر دورها في قائمة من سيتفل على وجوه أصحابها مشعوذ مغربي وأمام طبيب يُعلّق وَزْغة على سرير نومه ويظل ينتظر موتها حتى تحمل معها عرق الأسى والحسرة الناتج عن فتق غضروفي وآلاف الأرواح الهشّة المتكسّرة على بلّور السَّحَرة والدجّالين بحثا عن الثروة دون عمل أو الزوج المكتمل.

____أن التونسي يعيش حالة إنشطارية في علاقة بالهوية الدينية وما يرتبط بها من أفكار وممارسات فتجده مثلا خارج أسوار وطنه (مثله مثل أغلب العرب والمسلمين) يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية في أوروبا وأستراليا باعتبار أنها تمثل بالنسبة إليه المخرج لتلك المجتمعات من الضلال والانحراف. وهو يتشبث بالبقاء في الغرب الذي يعارض قوانينه ويرفض تقاليده، ولكنه يستميت في رفض العيش تحت الظلال الوارفة لحكومات بلاده المستبدة. يدافع بتشدّد عن حق المسلمين في بناء الجوامع على أرض الكفّار ولكنه يشعر بنوع من الضّيم عند مروره ببقايا كنيسة أو بيْعة في بلده.

____أن التونسي يُظهر ورعه وزُهده وتقواه ويحرص على أداء مناسكه بالكامل ولكنّه يُبدع في التعامل بشكل انتقائي مع النصوص والأحكام المتداولة لتشريع أفعاله وأعماله واختياراته كأن يُحاول تبرير الاعتداء على منابات أخواته البنات في الميراث أو تسويغ العنف الذي يمارسه على زوجته والمرأة عامة أو إيجاد الأعذار لحالات الاغتصاب… وفق منطق “أدّي الفرض وانقب الأرض”.

____أن التونسي يتردّد كثيرا على مواقع الإباحة والسباحة في مستنقعات الواب المستراب بل حقّق خلال شهر رمضان 220 ألف زيارة يوميا لمواقع إباحية (حسب الأرقام التي نشرتها وكالة ألكسا في 2016)، لكنه لا يتحمّل وجود فقرة في كتاب فاتن الفازع تتحدث عن لحظة حميمية بين كائنين من جنس مختلف لخّصتها في “…ودخلنا لدنيا أخرى” بالرغم من أن عديد الكتّاب والأدباء الآخرين مثل شكري المبخوت وأمال مختار وأيمن الدبوسي سبقوا إلى إقحام فقرات وصور واستعارات تُحيل على عالم اللذّة والحميميّة دون أن يُحدث ذلك هرجا ومرجا مثل الذي نراه خلال الأيام الأخيرة.

____أن اليسار السياسي تجده بصفة آلية في كل الاحتجاجات والتحركات والإضرابات والاعتصامات التي ينفّذها البائسون والمُعدمون… لكن هؤلاء يوم الاقتراع إما يتغيّبون أو يبيعون “الطُّرْح” مقابل بعض الملاليم والتصويت لفائدة قوى ووجوه لم تساندهم يوما أو تؤيّدهم في مطالبهم بل يعتبرونهم همجا ودهماء وغوغاء في سياق نظرية “الفقر والله ما يظلمش”.

وأترك لكم حرية التفكير بمُفارقات أخرى يكتظّ بها المشهد التونسي.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version