تابعنا على

جور نار

مهنٌ أخرى أكثر نُبلاً أقترحها عليكم

نشرت

في

نبّهني صديقي العزيز سامي الحبيب بعد نشر الورقة السابقة أن “المهن الجديدة” التي حاولتُ رصدها ورسم خصائصها ومرجعيّة مهاراتها المطلوبة على سبيل الاستطلاع المرح لمزاج التونسيين من حولنا،

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

 نبّهني إلى أن أغلب أمثلة المهن مُحيلة على أمزجة جانحة وغير سويّة بل ومنحرفة لا يُمارسها إلا الضّالعون في إلحاق الأذى والنّيل من عزائمنا، مثل الوُشاة والأدعياء ومُفسدي الذوق العام وهواة التموقع ومُروّجو حبوب الاكتئاب … باستثناء مهنة مُصنّعي المُهذِّبات والمُرطِّبات : من ترطيب الخطاب وتهذيبه، بما يُحتّم الاهتمام بتخصيص بعض المساحة لطبائع أخرى قد تكون ذات تمثيلية أكبر للتونسيين ومُلهمة أكثر،  والحال أنه رغم سحب القتامة والسّآمة التي تُخيّم على سمائنا أحيانا، مازال يحق لنا أن ننشد في حق بلادنا مع الشيخ إمام “سلامتك يامّه يا مُهرة، يـا حبّالة يا ولاّدة، يا سـتّ الكلّ يا طاهرة.”

فوعدته بمحاولة إنجاز ورقة تُقيم التوازن بين الفئتين وتُعيد الاعتبار للأسوياء والأصيلين الذين هم كُثرٌ، يُحَلّون أيامنا ويقاومون التصحّر ويُعطّرون الفضاء بعطائهم وتضحياتهم وعميق اقتناعهم بأن عطر ورودنا التونسية أكثر وأقوى من شوكها الضّاري.

فكانت هذه النماذج :

الحائزون على شهادة الريادة في مقاومة التصحّر

أعرف مواطنا تونسيا (لا يهمّه كثيرا أن يتمّ إشهار اسمه لأنه يُشرف على مشروع عملاق فوق الأسماء ويعانق السماء) توفّرت له كل الإمكانيات ليمنح نفسه حياة باذخة على ساحل المتوسّط، لكنه اختار أن يستوطن في صحاري تطاوين لينصهد بشموسها ويغرس آلاف الأشجار من زيتون ونخل ولوز وتين … يسحب لها مياه الريّ من أعماق الصحراء ومن مجاري مياه الأمطار عندما تُجزل الطبيعة عطاءها. ومثله كثيرون ممّن تمرّدوا على الإرث الثقافي الزراعي للمحتلّ الفرنسي الذي جعل من الصحراء مستودعا نفطيا والجنوب الغربي حوضا منجميا والشمال مطمورة للحبوب والوطن القبلي منبتا للكروم والحمضيات… ولا شيء عدا ذلك…إلى أن أصبحنا بفضل مبادرات الأفراد خاصة نُنتج الرمّان في غار الدماء وتستور والبرتقال والعنب في بوسالم والفستق في سيدي بوزيد والكريمة في وشتاتة والتفاح في سبيبة وحَبّ الملوك في مكثر والخضر بأنواعها في المعمورة، الخ… إضافة إلى كتائب المقاومين للتصحّر الثقافي إن بالقلم أو بالريشة أو بالصوت أو باللحن.

مهندسو أساسيات الادخار الرمزي

أضع شخصيا في هذه الخانة نساءً ورجالا سبقوا عصرهم ووضعوا حجر الأساس لاجتياحات ثقافية تحرّرية عميقة ومبكّرة، أربحتنا مئات السنين مقارنة بمجتمعات أخرى في التعليم والفلاحة والسينما والمسرح والرياضة والعمل النقابي والمدني … (بالرغم كل ما يتهدّد اليوم رصيد الادخار هذا من تراجع وانكماش نتيجة الكُفر بنِعم الأوّلين وعمى المسؤولين). ولا يمكن أن أمر هنا دون استدعاء ما دوّنه أحد الأصدقاء مؤخرا حول أسطورة حنبعل باركا مبدع الاستراتيجيا العسكرية الذي أرهب روما مجتازا جبال الألب منذ 2000 سنة، مُعلقا: “النار تخلّف الرّماد…واليوم ولّينا مجرد حرّاقة”.

شهادة الكفاءة في تخصيب الطباشير

من الطبيعي حسب رأيي أن نلاحظ في مدرستنا التونسية جُنوح عدد ضئيل من المدرّسين وانجرارهم إلى التكسّب غير اللائق، ومحاولة ردْم الفراغات التي تُسبّبها أجور البؤس من خلال الدروس الخصوصية وهرسلة التلاميذ وممارسة التدريس “قطرة قطرة” وإخفاء بعض مفاتيح النجاح، ليتمكن منها من يقدر على الدفع أكثر دون غيره… بحكم تعدادهم بعشرات الآلاف بين الابتدائي والثانوي والجامعي والخاص وكذلك بحكم عوامل ثقافية ومجتمعية دأبنا عليها كتونسيين، في علاقة بدهس القانون وغياب منطق المنفعة العامة، والأنانية المفرطة.

لكن هذه السلوكات الشّاذة لا يجب بأي حال أن تحجب عنّا المجهودات الاستثنائية التي يبذلها عموم المعلمين والأساتذة في ظروف قاسية أحيانا، من أجل إيصال أوسع طيف ممكن من المتمدرسين إلى أرقى الطوابق الناجية والنأي بهم عن مزالق الانقطاع والانحراف التي تحيط بأسوار المدرسة من الجهات الأربعِ. يكدّون ويجتهدون ويُنفقون من شرايينهم ووقت عائلاتهم لإعطاء أفضل ما لديهم في ظل تعطّل مصعد المدرسة العمومية – كمنظومة – عن أداء وظيفته، واضطرار جميع مستعمليه إلى تسلّق السّلالم الوعرة  التي لا تلين إلا لمن يؤمن بأن “الفرص الكبيرة في الحياة تأتينا دائما متنكّرة في ثوب عمل شاق ومُنهك” كما يقول بعضهم.

فحقُّ هؤلاء علينا أن نُنصفهم ونُدرجهم ضمن فئة “حُرّاس المعبد” الذين تقوم على أكتافهم (مثلهم مثل الأمنيين الأنقياء والعسكريين الأشداء والإداريين الشرفاء) مهمة منع “اللؤماء” من خلط الحابل بالنابل والإيهام بأن إعادة القطار إلى السكّة بات أمرا مستحيلا.

مؤهل الخبرة في الإمتاع والإبداع

لا أحد مُطلقا يمكن أن يُلزم مُبدعا بكتابة نصّ جميل تنتشي له النفوس أو يفرض على موسيقيّ أن يُنتج لحنا يُبهج القلوب، أو يُرغم رياضيا على إعلاء رايتنا الوطنية في المناسبات الدولية وإسعاد ملايين التونسيين… ولكن هؤلاء النشطاء التلقائيين لا ينتظرون قرارا سياديا أو عطاءً جزيلا من الدولة لفعل ما يفعلونه إيمانا عميقا منهم بأن مجد الشعوب لا يُصنع في أروقة مؤسسات الدولة فحسب، وإنما أيضا وخاصة في رؤوس فلاسفتها ومُبدعيها وأنامل موسيقييها ومهارات رياضييها وتمرّس باحثيها وطموح دارسيها.

التأهيلية المهنية العليا في ممارسة وظيفة الأمومة

تقديري الشخصي أن الأم التونسية من الأمهات القلائل في العالم التي تتفوّق على المدرسة ببرامجها ومُدرّسيها وميزانيتها ومقارباتها العالِمة في تأهيل الناشئة. فكل قصة نجاح باهر في بلادنا وراءها حتما أمّ حاضنة ومؤطرة ودؤوبة. ولكن ما يصنع مجدها من ناحية أخرى هو قدرتها الخارقة على تحمّل أعباء فيالق عائلية بأكملها طهيا وكيّا وتنظيفا وترتيبا وتلميعا وتدبيرا وتسييرا … والنهوض مع صياح الديك من أجل إعداد “صلصة المقرونة” قبل التوجّه إلى عملها الموازي الذي تُحرز فيه هو الآخر شهائد عليا تهِبُها مقاما اعتباريا مرموقا لا يقل قيمة عمّا ينجزه الرجال بل يفوقه في كثير من الأحيان.

فهؤلاء الأمهات- المحاضن تساهمن أيضا من مواقعهنّ المختلفة في تقليص نفوذ ما أسميناه بالطبائع الضالّة وجعلنا نثق بأن في حامضنا النووي شيئا ما يسمح لنا بإعادة التشكّل بعد كل تكسّر أو تعكّر.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

التقصي عن أمراض السكري وضغط الدم… وليس عن أعوان التلفزة!

نشرت

في

محمد الزمزاري:

انطلقت الحملة الوطنية المتعلقة هذه المرة بالتقصي حول الأمراض المزمنة وكان مرض السكري وأيضا مرض ضغط الدم هما المدرجان في هذه الحملة.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

يشار إلى أن نسب مرضى السكري و ضغط الدم قد عرفت ارتفاعا ملفتا لدى المواطنين و بالتحديد لدى شريحة كبار السن مما يكسي اهمية لهذه الحملات التي تنظمها وزارة الصحة العمومية بالتعاون المباشر مع هيئة الهلال الأحمر التونسي.. وقد سنحت لنا الفرصة لحضور جزء مهم من الحملة في بهو محطة القطارات الرئيسية بساحة برشلونة، لنقف على تفاعل عديد المواطنين المصطفّين قصد الخضوع لعملية التقصي بكل انضباط وكان جل الوافدين طبعا من كبار السن، كما لوحظ تواجد عدد كبير من ممثلي الهلال الأحمر ومن الأطباء بمكتبين ويساعدهم بعض الممرضين.

الغريب انه لدى تغطيتى العارضة لهذه الحملة المتميزة التي تهدف اساسا إلى توعية المواطنين وحثهم على تقصي الأمراض بكل انواعها بصور مبكرة، بالاعتماد على كافة قنوات الاتصال وأهمها الإعلام الذي لن يكون الا داعما لهذا الهدف الإنساني لكن احد اعوان الهلال الأحمر فتح معي بحثا ان كنت من التلفزة الوطنية ملاحظا ان القناة المذكورة هي الوحيدة المسموح لها بالقيام بالتغطية ولم يكتف بهذا بل أكد ان الأطباء لا يحبون التصوير.

طبيعي اني لم اتفاعل مع هذا الجهل وضحالة المعرفة باهداف الحملة بالإضافة إلى عمليات التقصي الفعلي ..ولما تجاوز في الإلحاح طلبت منه الاستظهار بصفته هل هو منسق الحملة حتى يمكنني أن امر إلى المسؤول عنها بصفتي صحفيا ..وواصلت عملى أمام انكماش هذا العون التابع للهلال الأحمر حسبما يدل عليه زيه.

وبعيدا عن هذا، لا يفوت التنويه بالجهود الكبيرة التي يتحلى بها طاقم الاطباء و الممرضين و متطوعي الهلال الاحمر، الذين يجهدون انفسهم لانجاح هذه الحملة سواء داخل بهو محطة السكك الحديدية او عبر بعض الفرق التي تعمل على التعريف بجدوى التقصي حتى خارج البهو الكبير.

أكمل القراءة

صن نار