نبّهني صديقي العزيز سامي الحبيب بعد نشر الورقة السابقة أن “المهن الجديدة” التي حاولتُ رصدها ورسم خصائصها ومرجعيّة مهاراتها المطلوبة على سبيل الاستطلاع المرح لمزاج التونسيين من حولنا،
نبّهني إلى أن أغلب أمثلة المهن مُحيلة على أمزجة جانحة وغير سويّة بل ومنحرفة لا يُمارسها إلا الضّالعون في إلحاق الأذى والنّيل من عزائمنا، مثل الوُشاة والأدعياء ومُفسدي الذوق العام وهواة التموقع ومُروّجو حبوب الاكتئاب … باستثناء مهنة مُصنّعي المُهذِّبات والمُرطِّبات : من ترطيب الخطاب وتهذيبه، بما يُحتّم الاهتمام بتخصيص بعض المساحة لطبائع أخرى قد تكون ذات تمثيلية أكبر للتونسيين ومُلهمة أكثر، والحال أنه رغم سحب القتامة والسّآمة التي تُخيّم على سمائنا أحيانا، مازال يحق لنا أن ننشد في حق بلادنا مع الشيخ إمام “سلامتك يامّه يا مُهرة، يـا حبّالة يا ولاّدة، يا سـتّ الكلّ يا طاهرة.”
فوعدته بمحاولة إنجاز ورقة تُقيم التوازن بين الفئتين وتُعيد الاعتبار للأسوياء والأصيلين الذين هم كُثرٌ، يُحَلّون أيامنا ويقاومون التصحّر ويُعطّرون الفضاء بعطائهم وتضحياتهم وعميق اقتناعهم بأن عطر ورودنا التونسية أكثر وأقوى من شوكها الضّاري.
فكانت هذه النماذج :
الحائزون على شهادة الريادة في مقاومة التصحّر
أعرف مواطنا تونسيا (لا يهمّه كثيرا أن يتمّ إشهار اسمه لأنه يُشرف على مشروع عملاق فوق الأسماء ويعانق السماء) توفّرت له كل الإمكانيات ليمنح نفسه حياة باذخة على ساحل المتوسّط، لكنه اختار أن يستوطن في صحاري تطاوين لينصهد بشموسها ويغرس آلاف الأشجار من زيتون ونخل ولوز وتين … يسحب لها مياه الريّ من أعماق الصحراء ومن مجاري مياه الأمطار عندما تُجزل الطبيعة عطاءها. ومثله كثيرون ممّن تمرّدوا على الإرث الثقافي الزراعي للمحتلّ الفرنسي الذي جعل من الصحراء مستودعا نفطيا والجنوب الغربي حوضا منجميا والشمال مطمورة للحبوب والوطن القبلي منبتا للكروم والحمضيات… ولا شيء عدا ذلك…إلى أن أصبحنا بفضل مبادرات الأفراد خاصة نُنتج الرمّان في غار الدماء وتستور والبرتقال والعنب في بوسالم والفستق في سيدي بوزيد والكريمة في وشتاتة والتفاح في سبيبة وحَبّ الملوك في مكثر والخضر بأنواعها في المعمورة، الخ… إضافة إلى كتائب المقاومين للتصحّر الثقافي إن بالقلم أو بالريشة أو بالصوت أو باللحن.
مهندسو أساسيات الادخار الرمزي
أضع شخصيا في هذه الخانة نساءً ورجالا سبقوا عصرهم ووضعوا حجر الأساس لاجتياحات ثقافية تحرّرية عميقة ومبكّرة، أربحتنا مئات السنين مقارنة بمجتمعات أخرى في التعليم والفلاحة والسينما والمسرح والرياضة والعمل النقابي والمدني … (بالرغم كل ما يتهدّد اليوم رصيد الادخار هذا من تراجع وانكماش نتيجة الكُفر بنِعم الأوّلين وعمى المسؤولين). ولا يمكن أن أمر هنا دون استدعاء ما دوّنه أحد الأصدقاء مؤخرا حول أسطورة حنبعل باركا مبدع الاستراتيجيا العسكرية الذي أرهب روما مجتازا جبال الألب منذ 2000 سنة، مُعلقا: “النار تخلّف الرّماد…واليوم ولّينا مجرد حرّاقة”.
شهادة الكفاءة في تخصيب الطباشير
من الطبيعي حسب رأيي أن نلاحظ في مدرستنا التونسية جُنوح عدد ضئيل من المدرّسين وانجرارهم إلى التكسّب غير اللائق، ومحاولة ردْم الفراغات التي تُسبّبها أجور البؤس من خلال الدروس الخصوصية وهرسلة التلاميذ وممارسة التدريس “قطرة قطرة” وإخفاء بعض مفاتيح النجاح، ليتمكن منها من يقدر على الدفع أكثر دون غيره… بحكم تعدادهم بعشرات الآلاف بين الابتدائي والثانوي والجامعي والخاص وكذلك بحكم عوامل ثقافية ومجتمعية دأبنا عليها كتونسيين، في علاقة بدهس القانون وغياب منطق المنفعة العامة، والأنانية المفرطة.
لكن هذه السلوكات الشّاذة لا يجب بأي حال أن تحجب عنّا المجهودات الاستثنائية التي يبذلها عموم المعلمين والأساتذة في ظروف قاسية أحيانا، من أجل إيصال أوسع طيف ممكن من المتمدرسين إلى أرقى الطوابق الناجية والنأي بهم عن مزالق الانقطاع والانحراف التي تحيط بأسوار المدرسة من الجهات الأربعِ. يكدّون ويجتهدون ويُنفقون من شرايينهم ووقت عائلاتهم لإعطاء أفضل ما لديهم في ظل تعطّل مصعد المدرسة العمومية – كمنظومة – عن أداء وظيفته، واضطرار جميع مستعمليه إلى تسلّق السّلالم الوعرة التي لا تلين إلا لمن يؤمن بأن “الفرص الكبيرة في الحياة تأتينا دائما متنكّرة في ثوب عمل شاق ومُنهك” كما يقول بعضهم.
فحقُّ هؤلاء علينا أن نُنصفهم ونُدرجهم ضمن فئة “حُرّاس المعبد” الذين تقوم على أكتافهم (مثلهم مثل الأمنيين الأنقياء والعسكريين الأشداء والإداريين الشرفاء) مهمة منع “اللؤماء” من خلط الحابل بالنابل والإيهام بأن إعادة القطار إلى السكّة بات أمرا مستحيلا.
مؤهل الخبرة في الإمتاع والإبداع
لا أحد مُطلقا يمكن أن يُلزم مُبدعا بكتابة نصّ جميل تنتشي له النفوس أو يفرض على موسيقيّ أن يُنتج لحنا يُبهج القلوب، أو يُرغم رياضيا على إعلاء رايتنا الوطنية في المناسبات الدولية وإسعاد ملايين التونسيين… ولكن هؤلاء النشطاء التلقائيين لا ينتظرون قرارا سياديا أو عطاءً جزيلا من الدولة لفعل ما يفعلونه إيمانا عميقا منهم بأن مجد الشعوب لا يُصنع في أروقة مؤسسات الدولة فحسب، وإنما أيضا وخاصة في رؤوس فلاسفتها ومُبدعيها وأنامل موسيقييها ومهارات رياضييها وتمرّس باحثيها وطموح دارسيها.
التأهيلية المهنية العليا في ممارسة وظيفة الأمومة
تقديري الشخصي أن الأم التونسية من الأمهات القلائل في العالم التي تتفوّق على المدرسة ببرامجها ومُدرّسيها وميزانيتها ومقارباتها العالِمة في تأهيل الناشئة. فكل قصة نجاح باهر في بلادنا وراءها حتما أمّ حاضنة ومؤطرة ودؤوبة. ولكن ما يصنع مجدها من ناحية أخرى هو قدرتها الخارقة على تحمّل أعباء فيالق عائلية بأكملها طهيا وكيّا وتنظيفا وترتيبا وتلميعا وتدبيرا وتسييرا … والنهوض مع صياح الديك من أجل إعداد “صلصة المقرونة” قبل التوجّه إلى عملها الموازي الذي تُحرز فيه هو الآخر شهائد عليا تهِبُها مقاما اعتباريا مرموقا لا يقل قيمة عمّا ينجزه الرجال بل يفوقه في كثير من الأحيان.
فهؤلاء الأمهات- المحاضن تساهمن أيضا من مواقعهنّ المختلفة في تقليص نفوذ ما أسميناه بالطبائع الضالّة وجعلنا نثق بأن في حامضنا النووي شيئا ما يسمح لنا بإعادة التشكّل بعد كل تكسّر أو تعكّر.