“يقال إن أحد الملوك قرر منع النساء لبس الذهب والحلي والزينة ، فكانت ردة فعل النساء كبيرة حيث امتنعن عن الطاعة … وبدأ التذمر والسخط والاحتجاج و حصل ردّ فعل عكسي و تعمّدت النساء المبالغة في لبس الزينة والذهب و الحُلي.
اضطرب الملك واحتار !!! فأمر بعمل اجتماع لمستشاريه وبدأ النقاش واقترح أحدهم التراجع عن القرار للمصلحة العامة، وقال آخر : لا .. التراجع مؤشر ضعف وخوف يجب أن نظهر قوتنا و نضاعف العقوبات !!! وانقسموا بين مؤيدين ومعارضين … و حينها طلب الملك إحضار حكيم المدينة و طرح عليه المشكلة.
فقال الحكيم للملك :لن يطيعك الناس إذا كنت تفكر فيما تريد أنت .. لا في ما يريدون هم … فقال له الملك وما العمل؟ أتراجع إذن؟ .. قال الحكيم لا ..ولكن أصدِرْ قرارا توضيحيّا تكميليّا بمنع لبس الذهب والحلي والزينة للجميلات لعدم حاجتهنّ إلى التجمل.. واستثناء القبيحات وكبيرات السن بلبس الزينة والذهب لحاجتهن إلى ستر تقدّمهنّ في السنّ و إخفاء عيوبهنّ …
وصدر القرار … وما هي إلا سويعات حتى خلعت النساء الزينة، وأخذت كل واحدة منهنّ تنظر لنفسها على أنها جميلة، لا تحتاج للزينة والحلي…
عندها قال الحكيم للملك: لقد أطاعك الناس عندما فكرت بعقولهم وأدركت اهتماماتهم من نوافذ شعورهم … “
هذا المنطق لم يفهمه إلى اليوم حكامنا و لم يدركوا أهمية التفكير بمنطق الشعب و اتخاذ قرارات تلقى لديه صدى و مقبولية…
و قرار منع استعمال الماء الصالح للشرب في قطاعات و أعمال بعينها و ما تبعه من إعلان عن النية بقطع المياه عن جهات من الجمهورية و في توقيت معيّن يوميا، أثار لغطا و اضطرابا لدى الشعب لأنه قانون لا يراعي احتياجات النّاس و لا وضعياتهم الاجتماعية … و لم يقع التمهيد له إعلاميّا و لا إعداد المواطنين لتقبّله، خاصة أنّه صار نافذا بمجرّد صدوره فلم يسمح للمتضررين بالاستعداد و البحث عن بدائل.. فإشكالية المياه و واقع الجفاف و تراجع نسبة امتلاء السدود لم تكن خافية على أحد بل إنّ الباحثين و العلماء كانوا ينبّهون من خطورة الوضع و يدعون السّلطات إلى استباق الأزمة و البحث عن الحلول المثلى و إقرار مجموعة من الإجراءات الكفيلة بالحدّ من مظاهر الهدر المائي… لكن لم تجد دعواتهم صدى أو تجاوبا إلى أن وجدت الدولة نفسها في مأزق حتّم عليها اتخاذ إجراءات متسرّعة تسببت في غضب المواطنين و انزعاجهم و في مزيد فقدان الثقة في قدرات المسيرين… فكيف يمكن للمواطن العادي أو للمستثمر محلّيا كان أو أجنبيّا أن يثق في دولة تتغيّر قوانينها بين عشيّة و ضحاها بصورة تمسّ من مصالحهم، و لا تملك رؤية و تصوّرا واضحين و تعمل دون خطط مدروسة و معلنة سلفا … و تتعامل مع أفراد شعبها على أنهم رعايا لا مواطنون …
و إضافة إلى أزمة المياه فقد تعمّق هذا الإحساس أيضا مع طريقة تعامل السلطة مع تساؤلات المواطنين حول غياب الرئيس مؤخّرا ففي الوقت الذي تنتشر فيه الإشاعات تغيب المعلومة الرسمية … فليلة 22 مارس 2023 كان آخر ظهور للرئيس و آخر نشاط مصوّر له بجولة في المدينة العتيقة بعد زيارة لجامع الزيتونة .. خاصّة أن هذا الغياب تزامن مع حراك دبلوماسيّ غير مسبوق تشهده بلادنا حيث أعلن وزير الدّاخلية الإيطالي عن خطّة لمراقبة المياه الإقليميّة التونسيّة، و تحدّث وزراء خارجية أوروبيون و مسؤولون أجانب عن خطورة الأزمة التي تمرّ بها تونس، و دعَوا صندوق النقد الدولي إلى منحها القرض المطلوب في أقرب الآجال و حذّروا من تزايد موجات الهجرة …
و أمام الصّمت المطبق لقرطاج صار غياب الرّئيس واضحا و غريبا و هو الذي عوّدنا بأنّه رمز الدولة الوحيد وأن لا قرار إلا قراره و لا تصريح إلا تصريحاته و كانت صفحة الرئاسة على الفايسبوك هي وسيلة التواصل الوحيد بيننا و بينه فلا ملحق إعلاميا بالقصر و لا متحدّث رسميّا يمكن مخاطبته… و حتى البلاغان الصادران في صفحة الرئاسة عن إقالة والي ڤابس ثمّ إحالته على التحقيق، يدّعي الكثيرون أنّهما لا يحملان بصمة البلاغات السابقة و لا أسلوب الكتابة فيها … بل بلغ الأمر بالبعض إلى التساؤل عمّن يحكم اليوم ؟ و من يدير دواليب السّلطة أمام تواصل غياب واضح و غريب لرئيس الجمهورية… و وصل الأمر بالبعض الآخر إلى تخيّل سيناريوهات الشغور في منصب رئيس الجمهوريّة و الفرضيّات الممكنة في ظلّ غياب المحكمة الدّستوريّة و احتمالات اللجوء إلى الأمر 117 أو الفصل 109 من دستور 2022..
و لو اعتمدت السّلطة سياسة الوضوح و الشّفافية لما بلغنا هذا النّوع من التساؤلات فإن كان الرئيس قد اختار الصّمت أو التفرّغ للرّاحة أو العبادة في هذه الفترة فهذا حقّه – و إن كان الوضع الذي تمرّ به البلاد لا يمنح من يمسك بكلّ السّلطات هذا التّرف – و لكن على مؤسسة رئاسة الجمهوريّة أو رئاسة الحكومة أن توضّح الأمر للمواطنين حتى تنتفي الحيرة و الخوف على مستقبل البلاد … و إن كان مريضا – شفاه الله – فليس المرض عيبا ليقع إخفاؤه بل كان بوسع مؤسسة الرّئاسة أن تصدر بيانا توضيحيّا في الأمر، أو كان بوسع سعيّد نفسه في هذه الحالة أن يحيل صلاحياته مؤقّتا لمن يختاره في انتظار تحقق شفائه و استعادة قدرته على ممارسة مهامه على رأس الدّولة مثلما يفعل عديد الحكّام في العالم و آخرهم “جو بايدن” رئيس الولايات المتّحدة الأمريكيّة حينما فوّض صلاحيّاته الرئاسيّة مؤقّتا إلى نائبته كامالا هاريس قبل أن يجري فحصا طبّيا شاملا يتطلّب تخديرا كليا.
إنّ التعتيم الإعلامي و غياب المعلومة الرّسميّة هما اللذان يساهمان في انتشار الإشاعات و في زعزعة أمن البلاد و استقرارها، و يعطيان انطباعا عامّا لدى أفراد الشّعب بأنّ مواطنتهم غير مكتملة و أنّ دولتهم تتعامل معهم على أساس أنّهم قصّر لا قدرة لهم على تحليل الأمور أو على أنّهم رعايا لم يبلغوا بعد درجة المواطنة …
و أيّا كان الأمر فلا يمكن إلا أن نرجو الأفضل لبلادنا و أن نطلب من البرلمان الذي سيشرع يوم غد في أعماله، أن يطالب بإرساء المحكمة الدّستورية في أسرع وقت و أن يعمل على إقرار قوانين تعطي الشّعب حقّه في المعلومة الواضحة و الدّقيقة .