اخترت أن أبدأ هذه السطور بهذه الجملة العميقة من كتاب “الهويّة العربيّة والأمن اللّغوي” للأستاذ عبد السلام المسدّي الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات سنة 2014 ( لن يندم العرب على شيء كما قد يندمون على أنّهم لم يلبّوا نداء لغتهم وهي تستجير بهم منذ عقود أن أدركوني، هتفت بهم همسا منذ أيام الاستعمار ثم صاحت عند انقشاع غمّته وها هي لا تبرح تشكو وتستغيث ).
وهذه الكلمات ذات الدلالات اللا محدودة في توصيف حالة لغتنا اليوم المهدّدة إلى درجة أنه تحدّث عن الانتحار اللغوي الصادم للعرب إذا لم يتداركوا أمرهم ليضيف ( ليس في الدنيا كلّها منظومة تربويّة يحالفها الفلاح في إنضاج الملكات اللّغويّة إن لم يعضدها مناخ اجتماعي يتّسم بالسلامة التعبيريّة ) … هذه العبارات هي التي ستكون المنطلق لورقة اليوم و أردت من خلالها التطرّق إلى موضوع يؤرّق كلّ غيور على عنصر أساسي من مكوّنات هويّتنا والتي اجتهد المفكّرون العرب في تحديدها وشرحها وتفكيك رموزها وأعني لغتنا العربيّة.
لقد أعياني العقل وأنا استمع إلى معظم إذاعاتنا و تلفزاتنا في أكثر برامجها الجماهيريّة التي تتجه إلى أكبر نسبة من المستمعين والمشاهدين بما في ذلك الشباب والأطفال، تستعمل فيها من جهة عناوين بلغات أجنبيّة لبرامج صباحيّة ومسائيّة ولّيليّة ولا علاقة لها تماما و لا من قريب أو بعيد بنا … يضاف إلى ذلك تلك اللهجة الهجينة التي تحتوي على كلمات هي خليط غير متجانس يجمع بين لهجات ولغات لا علاقة بينها لا في القواعد ولا في النحو لا في الصرف ولا في التاريخ ولا في الأهميّة، فأحيانا تنطق جملة كاملة بالفرنسيّة وأحيانا أخرى نجد نصفها فرنسيا والنصف الآخر بلهجتنا التونسيّة، وقد نستمع في ذات السياق إلى كلمة عربية وأخرى فرنسيّة وقد تحشر بينهما كلمة بلغة ثالثة، وهذا يذكّرني بما يعرف بلغة “الكْرِييول” والتي هي خليط من لغات عديدة، بفعل القوّة طمست الهويّة اللغويّة الأصلية لملايين الأشخاص ضحايا الاستعمار وتجارة الرقيق .
إنّ الإذاعة والتلفزة هي أدوات لصنع الرأي العام ليس في الجانب السياسي دون سواه كما قد يذهب إلى بعض الأذهان لكن أيضا في مسائل لا ندرك خطورتها ولها علاقة بالهويّة وبالثقافة الوطنية وبالتاريخ والمستقبل، إن اللجوء إلى هذا الحل السريع أي التعبير بما قد يستحضره الذهن من كلمات أجنبيّة يدفع عقولنا وعقول أبنائنا إلى الكسل والخمول وتكون النتيجة التي هي ظاهرة للعيان إلاّ لمن رحم ربّك عدم إتقان اللغة الأم وعدم إتقان اللغة الثانية معا. ومهما اجتهد المربّون في المدارس من أجل تدارك الأمر فإنّ الضرر أكبر حجما من المتوقّع، وقد يكون هذا سببا من أسباب هجر مقاعد الدراسة بصفة مبكّرة للكثير من أبنائنا الذين وجدوا أنفسهم بين متطلّبات لغويّة على مقاعد الدراسة وبين ما ألفوه إلى حدّ اعتباره أساسا في اللهجة الهجينة في وسائل الإعلام وفي وسائل التواصل الإجتماعي وهي في تقديري الكارثة الأكبر…
إنّ الأمر لا يعني المخاطبة وتبليغ الرسالة باللغة العربيّة الفصحى فلذلك مجالاته ومحيطه بل هي دعوة لمخاطبتنا بلهجتنا التونسية، التي نفهمها ونستوعبها أينما كنّا فوق تراب تونس.يتذكّر الكثير منّا أنّ التلفزة التونسية كانت أيام الأبيض والأسود تخاطب التونسيين باللغتين العربية والفرنسيّة لكن من خلال برنامجين منفصلين، كذلك إذاعة تونس الدوليّة التي تخاطب التونسيين والمقيمين على أرضها باللغة الفرنسيّة وبلغات عالمية عديدة.
إنّ المسألة ليست بتلك السهولة التي نروّج لها في حالة اللاوعي بل هي ثقافة الاختراق كما ينعتها محمّد عابد الجابري في ورقة له تحمل عنوان الهوية الثقافية والعولمة: عشر أطروحات ليضيف وهي يتحدّث عن ثقافة الاختراق (إنّها تقوم على جملة من أوهام التطبيع مع الهيمنة وتكريس الاستتباع الحضاري وتتولى القيامَ بعملية تسطيح الوعي، واختراق الهوية الثقافية للأفراد والأقوام والأمم، ثقافةٌ جديدة تماما لم يشهد التاريخ من قبل لها مثيلا ثقافة إشهارية إعلامية سمعية وبصرية تصنع الذوق الاستهلاكي والرأي السياسي وتشيّد رؤية خاصة للإنسان والمجتمع والتاريخ ).
قد يرى البعض أن في الأمر شيئا من المبالغة والتضخيم لموضوع لا يستحقّ عناء ولا انشغالا فكريّا بما أن مثل هذا الأداء اللّغوي إنّما هو من قبيل مخاطبة المتقبّل بما يساعده على الفهم والإدراك، نعم قد يبدو الأمر بمثل هذا الاستنتاج العادي ، لكن أصل الأشياء هو أعمق إذا ما علمنا أنّ كل شعوب الغرب تقريبا لا نراها تبحث عن مخرج لمخاطبتك بلغة أو لهجة تفهمها، والصدمة الأولى عند الحدود، فالألماني يخاطبك بلغته سواء فهمت أم لم تفهم، وكذلك الفرنسي والبريطاني وغيرهم، فهي شعوب أدركت من خلال حراك مثقّفيها ومفكّريها أن اللغة الأم هي جزء من الأصل الذي نعمل على فرضه مبدئيا داخل الحدود الجغرافية حتى لا يحصل ما وصفه الجابري بالاختراق.
إن العاملين في مختلف قنواتنا الإذاعيّة والتلفزيّة هم حملة رسالة حضاريّة من بين مقوّماتها لغتنا التي بها نتخاطب ونتكلّم سواء تعلّق الأمر بالفصحى أو بلهجتنا التونسيّة الجميلة والتي تكون أجمل عندما تكون خالية من الاختراق، وأخشى ما نخشاه جميعنا ونحن في هذا الضيق أن ينطبق علينا كلام لابن حزم الأندلسي قاله منذ قرون ( إن اعوجاج اللّسان دلالة على اعوجاج الحال )