لا يوجد سبب لاعتبار بلدنا سياحيا، و لكن توجد مؤشرات كثيرة على أن بيننا و بين السياحة عداء مكينا … و دعك من الصورة الوردية التي أفرطنا في تداولها عشرات السنين حول الشمس و الرمل و البحر إلخ و كأننا إحدى جزر الكاراييب … و الحال أننا أقرب إلى الكرب منا إلى الكاراييب …
لكي تكون بلدا سياحيا عليك بتوفير شروط أهمها أن شعبك سبق له أن مارس السياحة في بلاد الآخرين و تكوّنت لديه ذائقة للجمال و حساسية ضد القبح و النشاز فهل أمكن هذا؟ … تجوالنا بين الأمم اقتصر غالبا على الهجرة لأجل عمل أو التسوّق الرخيص في المواقع الأرخص، أو التصوّر في أية حفرة بعيدة عنا و نشر ذلك لإغاظة الأصدقاء قبل الخصوم … ثم هناك عندنا خاصية ننفرد بها: ما نراه عند الآخرين من نظام و نظافة و روح مواطنة و جودة خدمات، نعتبره ميزة حصرية لتلك البلدان لا يمكن أن يخرج منها أو يُنسخ عنها أو نفعل مثله في تونس … و إن استغربت و سألت و ألححت في السؤال تأتيك إجابة قاطعة … لسنا متاع هذا …
عنصريون ضد أنفسنا و بعد ذلك نستنكر عنصرية أوروبا و أمريكا و مالطة العورة …
مما لاحظناه في البلاد التي تحقق أرقاما سياحية أعلى، اختلاف جهاتها الواحدة عن الأخرى … كل و ما تختص به … في المنتجات المحلية طبعا، و لكن خاصة في المعمار و المعالم العامة و أسماء المواقع و شعار المنطقة و تفاصيل عدة تجعل لاهاي غير أمستردام، و تولوز ليست مرسيليا، و كاتالونيا (برشلونة) نقيض قشتالة (مدريد)، و البندقية بعيدة جدا عن لومبارديا رغم أنهما متجاورتان … نقطة قوة تلك البلاد سياحيا هي جهاتها الداخلية و مئات القرى التي تتناثر على أكتاف جبالها و ضفاف أنهارها … جميع هذه الأوطان بها سواحل و شواطئ و بحار أكبر من بحرنا و أجمل و أنظف، و مع ذلك تحتل الهضاب الخضر و مراعيها وغاباتها و طرقاتها الصاعدة الملتوية المكانة الأهمّ في اكتشافات زائريها و إقاماتهم و استراحاتهم …
صحيح أن تلك القرى لها طرقات سليمة توصلك إليها، و بكل منها مطعم لائق بل مطاعم، و فندق محترم بل فنادق، و سكّانها مضيافون دون أن يكونوا شحّاذين، و شوارعها قليلة و لكن بلا كلاب ضالة تتناسل في وضح النهار … و لكن الأصحّ أن المطاعم و الفنادق هناك تقدم الأكلات و الأجبان و الخمور المحلية، و تقيم لها أسواقا و معارض و احتفالات مدوّنة في الدليل السياحي لكامل البلاد … تحجز لها المواعيد و تُقتطع التذاكر و تقام الأفراح و حتى الكرنفالات …
و الأصحّ أكثر، إصرار الكلّ على تلك الهوية المحلية بكل جزئياتها … ليست كل المباني مضروبة بطابع سيدي بوسعيد الأبيض و الأزرق حتى لو كانت في ذرى جبال خمير أو في وهاد صحراء نفزاوة … و ليست كل الشوارع تحمل نفس أسماء زعامات الحركة الوطنية أو وزراء ميّتين (الطيب المهيري، منجي سليم، علي البلهوان، الهادي نويرة …) تتكرر باستمرار متجاهلة رموز كل منطقة و رجالها و نساءها … و ليست كل الحدائق العمومية مفروض عليها زراعة النخيل حتى لو وقعت في شمال قصيّ و لا تثمر سوى حبّ أخضر يحتفظ بمرارته و لا يتحوّل إلى تمر مهما فعلت له … و ليست كل الحيوانات التي يراها السائح مختصرة في جمل يتهادى متعجّبا من وجوده على أسفلت نابل و الحمّامات …
و قس على ذلك ما تراه من خيام بني ربيعة التي هجرت ربعها الخالي، لتربض على ضواحي العاصمة في مكان طريف اسمه “نجع قمرة” …