يتغزّل كثيرون بالريف الأنكليزي، و هناك من يؤمّونه من شتى بقاع العالم و بأعداد وفيرة فما السبب؟ … كل الدنيا فيها أرياف و فيها مدن و فيها بورجوازيون و فيها قرويّون و فيها عمارات و فيها ضيعات … فلماذا هذا الوله ببادية بعينها دون كل البوادي؟
كنت ذات مرة من محظوظي زيارة هذا الشطر الأخضر من أقدم دولة صناعية في الزمن الحديث … أنكلترا أو بريطانيا أو المملكة المتحدة، سمها ما شئت … و لاحظت أن ريف تلك الدولة عميق الاختلاف مع مدنها الشهيرة بالحركة و المال و الجامعات ونوادي الكرة التي صارت عناوين لمدن لا تنفصل عنها في الأذهان … يختلف ريف مانشستر عن مانشستر، و ريف ليفربول عن ليفربول، و كذلك أرياف ليدز وبيرمنغهام و نوتنغهام و شيفيلد عن مدنها بشكل كبير … و لكنه ليس اختلاف غنى وفقر، أو تحضّر و تخلّف، أو منطقة نور و منطقة ظل، أو مواطنين خمس نجوم ومواطني العربة الأخيرة … لا، فالكل يحظى بالرعاية و ينعم بالمرافق … و لكن الاختلاف في خصوصية المكان، و أهل المكان …
فمثلما لا يمكنك تسريح الماعز و الأبقار و الخرفان في وسط لندن، ليس بإمكانك أن تشيّد عمارة أو فيلاّ من البلور و الألومنيوم في أرياف “كنت” و “يوركشاير” و “دارتمور” و منطقة البحيرات (لايك ديستريكت) في الشمال الغربي … هنالك توجد منظومة إنسان و حيوان و نبات من الضروري الحفاظ عليها … كما يوجد إرث معماري لا يكفي أنه مصون بعناية، بل يحجّر بناء الجديد خارج تلك الأنماط الموروثة عن سحيق الزمن … و مع المعمار ثقافة و فنون مائدة و عصر خمور و روايات ميثولوجيا تجدها في متحف القرية المكلل بالقش على شاكلة بيوت مزارعي العصر الوسيط … و لكن يقودك إليها و يطلعك على أسرارها دليل من أهل الجهة مستواه باك + 6 على الأقل … يطوف بك في الأرجاء شارحا باعتزاز تاريخ أجداده السكسونيين أو السلت، وينهي بك الطواف في مقهى القرية أو “الباب” الأنكليزي التقليدي … وسط عشرين ابتسامة ترحاب صامت من عشرين زبونا محليا …
الريف خصوصية … و لا يكفي أن تكون محاطا بشجيرات البُكّ و أسوار الهندي و الحمير و الأكواخ الآيلة للسقوط، حتى تقول هنا الريف هنا الطبيعة الغنّاء … بالعكس، فهذه شواهد بؤس يمكن أن تراها حتى و أنت في قلب العاصمة … و قد اختصرت يوما الطريق عبر التوغل في حي الأكراد للمرور إلى لاكانيا، فإذا بقطيع من الكلاب يلاحقني بنباحه و في الخلفية بيوت قصدير و قصب و دجاجة فولي تنبش مع فلالسها و امرأة تغسل لطفلها العاري و بقية جرّار فلاحي عمره أربعون عاما أقل تقدير …
طبعا أنا من غُزيّة إن غوَت … و أولاء هم أهلي و أهلك و ليت لي القدرة على أن أكون و يكونوا في أحسن حال، في الريف البعيد أو في المدينة القريبة … و لكن لكل مقام مقالا، و ليس على طريقة حاكمنا المستقيل أو المُقال …
خصوصية الأرياف أولا في مساحاتها التي لا يحدها بصر، و لا باعث عقاري جشع، و لا مواطن بالخارج عاد للثأر من طفولته الرثّة و إفساد مشهدنا الجميل … و ثانيا في نشاطها المعيشي النابع ضرورة من موارد تلك البقعة، سواء كانت خفّاف عين دراهم، أو فرنان فرنانة، أو صفصاف بهرة، أو تين دجبّة، أو كالاتوس بوعرادة، أو خرّوب جبل شهيد بقعفور، أو زعرور نفزة، أو زقوقو التريشة، أو طين البرّامة، أو سفرجل تبرسق، أو فقاع مينة الأخوات، أو فستق بساتين قمّودة، أو لوز أجنّة صفاقس، أو كمأة فيافي قفصة، أو رخام الطبقة الأرضية الممتدة بين ابّة قصور و تالة …
طبعا ذكرت هذه المناطق دون غيرها، لأن “الكارت بوستال” المسوّقة عن جمهورية تونس، تختصر جغرافيتنا في شواطئ الحمامات و مارينا القنطاوي و نخل الجنوب و أقبية سيدي بوسعيد … أما البقية، فللعاهر الحجر.