جور نار

هجرةُ نُخبتنا : هل هي لعنة أم ثروة حسنة ؟

نشرت

في

باستطاعة العقل عندما يكون قابعا في الموقع الخطأ أن يتوه أو يهاجر أكثر مما اذا سافر نحو كامبريدج أو باريس (جاغديش بهاغواتي، الاقتصادي الهندي الأمريكي).

<strong>منصف الخميري<strong>

هجرة الأدمغة هي تعبير مُلطّف للمفهوم الأصلي “هروب الأدمغة” fuite des cerveaux الذي يُعبّر بشكل أدقّ عن ظاهرة اضطرار كفاءات البلدان المتخلفة لمغادرة بلدانهم بحثا عن ظروف عمل أفضل أو أجور أجزى أو هياكل بحث أجدى أو مسارات دراسية أجود… وكل بلدان العالم تقريبا معنية بهذه الظاهرة ولكن بدرجات متفاوتة وبأضرار أفدح بالنسبة إلى البلدان الأقل نموّا.

تفيد الإحصائيات العالمية بأن :

  • ما لا يقل عن 400 بريطانيّ يهاجرون يوميا.
  • و84 % من أصحاب الشهائد العليا في هايتي يغادرون البلاد سنويّا.
  • وما لا يقل عن 40 % من المختصين البيولوجيين الفرنسيين الأكثر كفاءة (بالنظر إلى عدد الأعمال العلمية المنشورة في المجلات العالمية المُحَكّمة) يعملون بالولايات المتحدة الأمريكية.
  • وتحتل تونس عربيّا المرتبة الثانية بعد سوريا في مجال هجرة الأدمغة حسب تقارير منظمة OCDE الأوروبية.

من المؤكّد أن لهروب الأدمغة كلفة اقتصادية وتنموية كبيرة وخاصة في علوم الحياة (البيولوجيا والبحث البيوطبي والبيئة)، مجالات حيث التداعيات الاقتصادية ملموسة جدا : براءات اختراع، أدوية ولقاحات جديدة، التطورات المسجلة في مجال التجهيز الطبي…ولكن لا يمكن أن يُغمض العالم عينيه أمام الفوارق الخرافية أحيانا في منظومات التأجير هنا وهناك، فعلى سبيل المثال، يتقاضى الأستاذ الشاب في الولايات المتحدة من 65000 الى 80000 دولار سنويا بينما لا يتقاضى نظيره الفرنسي سوى 30000 يورو. والأستاذ التونسي حوالي 6000 يورو.

حسب تقدير أغلب المتابعين لظاهرة “الهجرة الماهِرة” أي تلك التي تشمل خرّيجي الجامعات في حقول معينة مثل الصيدلة والمجالات الطبية وشبه الطبية والاختصاصات البيولوجية والهندسة والإعلامية والتدريس والبحث والمحاماة… فإن هذه الظاهرة هي سلاح ذو حدّين فيها الإيجابي وفيها السلبي ويبدو أن وقعها على البلدان المتطورة أقل تأثيرا (بالنظر إلى وجود نواة داخلية صلبة قارة قادرة على تعويض الكفاءات المهاجرة)  مقارنة بالبلدان العربية والإفريقية وعموم البلدان المتخلفة.

ما هو سلبي :

هو أن الإنفاق العام في مجالات التربية والتعليم في بلداننا تمّ على حساب أولويات تنموية أخرى ويُعدّ استثمارا كان من المفروض أن نجني منه بعد سنوات قيمة مضافة في عددِ ومستوى كفاءة مدرّسينا وباحثينا وأطبائنا ومهندسينا وإعلاميينا … لكن للأسف من ظفر في النهاية برحيق مدرستنا هي المؤسسات الاقتصادية والتجارية والبنكية الأوروبية والأمريكية (أو الخليجية أيضا) التي لم تنفق سِنْتا واحدا في تكوين هذه الكفاءات الناجزة.

كما يُلاحظ غالبا أن الذين يغادرون اضطراريا من البلدان الأقل نموّا لا يعودون للمساهمة بقدر مّا في نهضة بلدانهم لأن النسيج الاقتصادي والصناعي وطبيعة المناخ السياسي والاجتماعي لا تغري هؤلاء بالعودة إلى بلدانهم الأصلية… وبالتالي تسجيل خسائر جافة في الكفاءة والأفكار والتجديد والمبادرة وتلَف الاستثمار الموجع في التربية وضياع مداخيل جبائية وانعكاس على مستوى الخدمات الأساسية خاصة في حقلي الصحة والتعليم.

ما هو إيجابي :

يمكن أن تكون هجرة الأدمغة في سياق اقتصادي تعَوْلم بشكل غير مسبوق خاصة منذ أوائل هذا القرن مجرّد “حركية شغلية دائرية” للكفاءات العلمية والمهنية وبالتالي إتاحة قدر أكبر من الحرية والمرونة أمام أصحاب الشهائد العليا والمهارات الدقيقة.

ومن جانب آخر، فإن البلدان الأصلية تخسر بالتأكيد آلاف المليارات سنويا جراء هجرة أدمغتها لكنها تسترجع في المقابل جزءا مهمّا من هذه الأموال نتيجة الأموال المُرسلة إلى الداخل والاستثمارات التي يقوم بها العائدون والتجربة الخِبريّة التي تراكمها الكفاءات المهاجرة والتي يعود جزء منها إلى بيئة المنشأ.

أما على المستوى الفردي، فالعمل بالخارج وبأجور مجزية يستفيد منه الأشخاص المعنيون بشكل مباشر ويمكّنهم من توظيف قدراتهم المهنية والبحثية والمضي بعيدا في تحقيق مشاريعهم الشخصية والمهنية.

تونسيا الآن :

أعتقد شخصيا أنه ليس لدينا أية قدرة على السيطرة على هذا النزيف أو الحدّ من تداعياته السلبية وكأنه مفروض علينا أن نتناول الظاهرة بشيء من التنسيب والإيجابية لنقول إن :

  • منظومة تعليمية قادرة على تخريج كفاءات مطلوبة ومشهود بكفاءتها عالميا هي حقيقة تونسية مُتفرّدة لا بد من تثمينها ومزيد الاستثمار فيها.
  • لدى التونسيين رصيد نوعي من المؤسسات الجامعية بالمئات في العمومي والخاص وعروض تكوينية بالآلاف وقدرات أكاديمية تأطيرية مهمّة نسبيا (رغم النزيف المتواصل) وبالتالي، لِمَ لا يُعاد النظر في الخارطة الجامعية ومنظومة المسالك التكوينية من أجل استهداف سوق الشغل العالمية تخفيفا لوطأة بطالة أصحاب الشهائد العليا وجني مقابل ما لفائدة التنمية الوطنية.
  • على الحكومة التونسية المبادرة بإطلاق حوار عالمي تحت إشراف الأمم المتحدة من أجل سنّ اتفاقية دوليّة مُلزمة لجميع الدول، يتمّ التعويض بموجبها للبلدان الأصلية على كل صاحب شهادة عليا يتم انتدابه في البلدان المستضيفة. (يُلاحظ في هذا الغرض أن كُلفة تكوين طبيب مختص هي 12 مليون دينار و 2.7 مليون دينار بالنسبة الى المهندس حسب المعهد العربي لرؤساء المؤسسات).
  • دعوة الكفاءات التونسية المنتصبة بالخارج إلى المساهمة في تمويل صندوق وطني يُرصد للبحث العلمي وتطوير الكفاءات من ناحية، وتحفيزهم على تقديم محاضرات وتأطير طلبة في الجامعات التونسية كل في اختصاصه من ناحية أخرى… في سياق ما يسميه البعض بتفعيل أثر الشّتات.
  • المهارة التي راكمها أبناؤنا ليُقنعوا المشغّل الأجنبي هم غير مدينين فيها للمدرسة وحدها بل تعِبوا وكابدوا وضحّوا خارج المدرسة ليصبحوا ما أصبحوا عليه (تعلّم اللغات بصفة ذاتية واجتياز مناظرات الإشهاد العالمية واقتلاع التربصات في كبرى الشركات وتجويد مهاراتهم عبر المنصّات الرقمية…). وعليه، فإن منعهم من التحليق خارج أجواء الوطن باسم احتياجات البلد هو من قبيل العقاب والتشفّي… لأن “الطفل الذي يُولد في ريف الموزمبيق له إحصائيا نفس حظوظ ابن موظف سام في بنك سويسري كي يُحرز منصب مسؤول كبير ببنك سويسري” كما يقول بعضهم.
  • ليس مستوى الأجور في الخارج هو العامل الوحيد الذي يجعل أبناءنا يرغبون في مغادرة البلاد بل كذلك عوامل اليأس والإحباط وكبت الحريات والمناخ السياسي المترهّل والأداء الإداري المُنفّر والعفن البيئي والرياء الاجتماعي … تقف هي أيضا وراء موقف “الهجّة” وتعزيزه لدى شبابنا.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version